ليلة القدر؛ فضائلها وسبل استثمارها

الكاتب : مسعد عرفة
ليلة القدر ليلة لها شرف جليل وقدر عظيم، وفيها الكثير من البركات والخيرات؛ فهي هبة عظيمة ومِنّة كبيرة اختص الله بها هذه الأمة. تعرف في هذه المقالة على فضائل هذه الليلة وسُبل استغلالها.

  سلْني عن أعظم نعمة امتنّ الله بها على عباده أُحدثك عن نعمة القرآن، وسلْني عن خير ليلة في العام أُحدّثك عن ليلة نزول القرآن؛ فهي ليلة ليست كسائر الليالي، إنها ليلةٌ عظيمة القدر أنزل الله فيها كتابًا عظيم القدر عن طريق مَلَكٍ عظيم القدر إلى نبي عظيم القدر، إنها ليلة القدر، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [سورة القدر:1-2].

فسبحان من شَهِدَ بفضل هذه الليلة واختارها لتكون ميقاتًا لميلاد رسالة الإسلام وموعدًا لنزول القرآن، فإن أردت أن تتحدث عن شرف القرآن وقدره فينبغي أن تتحدث عن شرف هذه الليلة المباركة التي نزل فيها القرآن، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [سورة الدخان:3].

فضائل ليلة القدر وخصائصها:

فليلة القدر ليلة قدرها جليل، وليس لها مثيل، ويضاعف الله فيها العمل القليل، فهي هبةٌ عظيمة ومنة كبيرة اختصَّ الله بها هذه الأمة، وفيما يلي نُجمل شيئًا من فضائل هذه الليلة العظيمة:

أولًا: أنَّ الله شرّفها بنزول القرآن فيها:

ذلك أنَّ القرآن قد نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم أُنزل بعد ذلك إلى الأرض منجمًا ومفرقًا بحسب الوقائع والحوادث، فعن ابن عباس قال: «أُنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة»[1].

ثانيًا: جعل الله -عز وجل- أجرَ العمل فيها خيرًا من ألف شهر:

قال مجاهد في قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} أي: «عملُها وصيامُها وقيامُها خيرٌ من ألف شهر»[2].

وذلك منّة من الله وفضل على هذه الأمة لقصر أعمارها، مقارنة بأعمار الأمم السابقة، فقد روي أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر يومًا أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين عامًا، قال: فعجب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ذلك، فأتاه جبريل فقال: يا محمد، عجبتْ أمّتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوه طرفة عين، فقد أنزل الله خيرًا من ذلك، فقرأ عليه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، هذا أفضل مما عجبتَ أنت وأمتك، قال: فسُرَّ بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والناس معه[3].

وروي عن مجاهد قال: كان في بني إسرائيل رجلٌ يقوم الليل حتى يصبح، ثم يجاهد العدوّ بالنهار حتى يُمْسِيَ، ففعل ذلك ألف شهر، فأنزل الله هذه الآية: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، أي: قيام تلك الليلة خيرٌ من عمل ذلك الرجل[4].

ثالثًا: من قام هذه الليلة إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه:

فعن أبي هريرة أن رسول الله -صـلى الله عليه وسلم- قال: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» [رواه البخاري].

رابعًا: أَخْبَرَ النبي -صـلى الله عليه وسلم- أن من حُرِم خير هذه الليلة فقد حُرِم:

فعن أبي هريرة -رضـي الله عنه- قال: لما حَضرَ رمضانُ قال رسول الله -صـلى الله عليه وسلم-: «قد جاءكم شهر رمضان، شهرٌ مباركٌ، افترض اللهُ عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه الشياطين، فيه ليلة خيرٌ من ألف شهر، من حُرِم خيرها فقد حرم» [رواه النسائي].

خامسًا: أنَّ هذه الليلة تنزّل فيها الملائكة ويُقدّر فيها الآجال والأرزاق:

يقول مجاهد: «يُقضَى في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو مصيبة، ثم يُقَدّمُ ما يشاء، ويُؤخّر ما يشاء، فأمَّا كتاب السعادة والشقاء فهو ثابت لا يُغّير»[5].

وعن ربيعة بن كلثوم، قال: كنت عند الحسن، فقال له رجل: يا أبا سعيد، ليلة القدر في كلّ رمضان؟ قال: إي والله، إنَّها لفي كلّ رمضان، وإنها الليلة التي يُفْرَق فيها كلُّ أمرٍ حكيم، فيها يقضي الله كلّ أجل وأمل ورزق إلى مثلها[6].

سادسًا: أخبر الله سبحانه أنها ليلة سالمة من الشيطان ومن كلِّ شرٍّ:

يقول ابن جرير في قوله تعالى: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، أي: سلام ليلة القدر من الشرّ كلّه من أوّلها إلى طلوع الفجر من ليلتها[7].

وقد روي عن مجاهد في قوله تعالى: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [سورة القدر:5] قال: هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا أو يعمل فيها أذى[8].

الحكمة من إخفاء ليلة القدر :

ومن حكمة الله -عز وجل- أن أخفى ليلة القدر كما أخفى الأعمار والآجال والأرزاق؛ وذلك ليجتهد المسلم في العبادة والطاعة في جميع ليالي العشر، بخلاف ما لو عُيّنت لها ليلة لخصّها الناسُ بالعبادة ولتكاسلوا عن سائر الليالي، ومع ذلك قد يخصُّ الله بعض عباده برؤية علامتها أو الشعور بسكينتها وبركاتها، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقد يكشفها الله لبعض الناس في المنام أو اليقظة، فيرى أنوارها أو يرى من يقول له هذه ليلة القدر، وقد يفتح الله على قلبه من المشاهدة ما يتبين به الأمر»[9].

بعدما عرفنا أيها القارئ الكريم فضل هذه الليلة المباركة، كيف لنا أن نكون من الفائزين بها؟

أولًا: ينبغي على المسلم أن يتحرّاها في الليالي العشر الأواخر من رمضان:

وذلك بالاجتهاد في العبادات والأعمال الصالحات في هذه العشر كلّها، وألا يفتر في ليلة منها وخاصة الليالي الوتر، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما-، أن النبي -صـلى الله عليه وسلم-، قال: «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان» [رواه البخاري].

وروي عن عائشة -رضـي الله عنها-: أنَّ رسول الله -صـلى الله عليه وسلم-، قال: «تحرّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان» [رواه البخاري].

ثانيًا: ينبغي على المسلم أن يجتهد في قيام هذه الليالي العشر وإحيائها:

فقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أنَّه كان إذا أتت العشر الأواخر من رمضان، كان يحيي ليله ويوقظ أهله ويعتكف في المسجد للعبادة، فعن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شدَّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله» [رواه البخاري].

وذلك لأن قيام الليل في هذه الليالي المباركة من أفضل العبادات، التي يمكن أن يتقرب بها المسلم إلى الله -عز وجل-، لما له من عظيم الأجر كما أخبر النبي -صـلى الله عليه وسلم-، فقد روى أبو هريرة، عن النبي -صـلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه» [رواه البخاري].

وهذا القيام يبدأُ من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، كما قال تعالى: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [سورة القدر:5].

ومن كان يصلي القيام في المسجد خلف الإمام فيستحب له عدم الانصراف من المسجد حتى ينتهي الإمام من الصلاة، إن أراد أن ينال أجرَ قيام ليلة كاملة؛ فقد روي عن النبي -صـلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة» [رواه أبو داود].

ثالثًا: الاجتهاد في الدعاء في هذه الليالي العشر:

وخاصة بهذا الدعاء الذي علمه النبي -صـلى الله عليه وسلم- لأم المؤمنين عائشة -رضى الله عنها-، فقد روي عنها أنها قالت للنبي -صـلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله، أرأيتَ إنْ علمتُ أيّ ليلةٍ ليلةُ القدر، ما أقول فيها؟ قال: «قولي: اللهم إنك عفو تحبّ العفو فاعفُ عنّي» [رواه الترمذي].

وفي الختام: أسأل الله أن يُبلّغني وإياكم ليلة القدر، وأن يرزقنا صيامها وقيامها على الوجه الذي يرضيه عنَّا، وأن يكتب لنا أجرها ولا يفتنّا بعدها، وصلِّ اللهم وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

[1] تفسير ابن كثير: (6/ 100).

[2] تفسير الطبري: (24/ 533).

[3] تفسير ابن كثير: (8/ 426).

[4] تفسير الطبري: (24/ 533).

[5] تفسير الطبري: (22/ 10).

[6] تفسير الطبري (22/ 8).

[7] تفسير الطبري (24/ 534).

[8] تفسير ابن كثير (8/ 427).

[9] مجموع الفتاوى (25/ 286).

كلمات مفتاحية

الكاتب

الأستاذ مسعد عرفة

باحث في الدراسات الإسلامية والعلوم الشرعية، له عدد من المشاركات والمؤلفات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))