تدريبات عملية للمفسر من خلال ألفية الحماسة "1"مدخل عام

بين التفسير واللغة علاقة وطيدة، فقد نزل القرآن بلسان العرب وعلى أساليبهم في الخطاب، وهذه المقالة حلقة في سلسلة تعرض تدريبات عملية للمفسِّر من خلال ألفية الحماسة المنتقاة من ديوان الحماسة؛ لتكون نموذجًا يحتذى في التطبيق العملي لطلبة العلم عمومًا، وللمتخصصين في التفسير خصوصًا

ديوان الحماسة لأبي تمام من أشهر المجاميع الشعرية وأهمّها لطالب العلم عمومًا، وليس لطلبة الأدب فقط، بل لا أبعدُ إن قلت إنَّ المتخصص في التفسير ربّما يحتاجُ إليها أكثر من غيره؛ لأنها جمعت روائع الاختيارات الشعرية التي تفيد من أراد الاستشهاد أو التطبيق أو التدريب العملي على نصوص القرآن الكريم وأساليبه البلاغية العالية.

وقد أشرتُ إلى هذه المسألة في مقدّمة (ألفية الحماسة) التي انتقيتها من ديوان الحماسة، تقريبًا لمن صعب عليه الأصل لطوله، وذكرت في الحواشي بعض التطبيقات والتدريبات المختصرة؛ لتدل على ما وراءها، ولكن شجعني بعض الإخوة على إضافة المزيد من التدريبات والتطبيقات الموسعة لبعض المقاطع الشعرية المختارة من ألفية الحماسة؛ لتكون نموذجًا يحتذى، وتكون أيضًا وسيلة من وسائل التشجيع على المزيد من التدريب والتطبيق العملي لطلبة العلم عمومًا، وللمتخصصين في التفسير خصوصًا؛ إذ هم من أولى الناس بمثل هذا، لما بين التفسير واللغة من علاقة وطيدة، فقد نزلَ القرآن بلسان العرب وعلى أساليبهم في الخطاب، ولا يمكن فهم القرآن بدون فهم اللغة التي نزل بها القرآن، يقول ابن جرير الطبري -رحمه الله-: «...فالواجب أن تكون معاني كتاب الله المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لمعاني كلام العرب موافقة، وظاهره لظاهر كلامها ملائمًا، وإن باينه كتاب الله بالفضيلة التي فضل بها سائر الكلام والبيان، فإذْ كان ذلك كذلك، فبينٌ - إذْ كان موجودًا في كلام العرب الإيجاز والاختصار، والاجتزاء بالإخفاء من الإظهار، وبالقلة من الإكثار في بعض الأحوال، واستعمال الإطالة والإكثار، والترداد والتكرار، وإظهار المعاني بالأسماء دون الكناية عنها، والإسرار في بعض الأوقات، والخبر عن الخاصّ في المراد بالعام الظاهر، وعن العام في المراد بالخاص الظاهر، وعن الكناية والمراد منه المصرح، وعن الصفة والمراد الموصوف، وعن الموصوف والمراد الصفة، وتقديم ما هو في المعنى مؤخرٌ، وتأخير ما هو في المعنى مقدم، والاكتفاء ببعض من بعض، وبما يظهر عمّا يحذف، وإظهار ما حظه الحذف - أن يكون ما في كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك، في كلّ ذلك له نظيرًا، وله مثلًا وشبيهًا»([1]).

وللشعر في ذلك أهمية خاصة ومزيّة كُبرى، فهو الدليل الأول والأشهر الذي يستدعى عند بيان لغة القرآن؛ لأنه ديوان العرب، وجامع أخبارهم، وأوثق ما وصلنا من هذه اللغة.

فلأجل هذا وغيره، كانت فكرة هذه السلسلة التي تيسر قسطًا من التدريب العملي والتطبيق على واحد من أشهر الدواوين الشعرية.

وهذه هي القطعة الأول من (ألفية الحماسة)، وهي أيضًا القطعة الأولى من (ديوان الحماسة).

* (البيت الأول):

         لو كنتُ مِن مازنٍ لم تَسْتبِحْ إبِلِي   

        

بَنُو اللَّقِيطةِ مِن ذُهْلِ بنِ شَيْبانَا

استشهد ابن عاشور بهذا البيت على اتقاء بطش مولى العدو؛ وذكره عند تفسير قوله تعالى: {لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ}، فقال([2]): «وتنكير النفس في الموضعين وهو في حيز النفي يفيد عموم النفوس؛ أي لا يغني أحدٌ كائنًا من كان فلا تغني عن الكفار آلهتهم ولا صلحاؤهم على اختلاف عقائدهم في غناء أولئك عنهم، فالمقصود نفي غنائهم عنهم بأن يحولوا بينهم وبين عقاب الله تعالى، أي نفي أن يجزوا عنهم جزاء يمنع الله عن نوالهم بسوء رعيًا لأوليائهم، فالمراد هُنا الغناء بحرمة الشخص وتوقع غضبه، وهو غناء كفء العدو الذي يخافه العدو على ما هو معروف عند الأمم يومئذ من اتقائهم بطش مولى أعدائهم وإحجامهم عمَّا يوجب غضبه تقية من مكره أو ضرّه أو حرمان نفعه».

وذكر البيت وبيتًا آخر قبله، ثم قال: «وبهذا يتبيّن أن مفاد قوله: {لا تجزي نفس عن نفس شيئًا} مغاير لمفاد ما ذكر بعده بقوله: {ولا يقبل منها شفاعة} إلخ، فقوله: {لا تجزي نفس عن نفس شيئًا}، هو بمعنى قوله تعالى: {يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر يومئذ لله} [الانفطار:19]».  

وفي البيت شواهد صريحة أخرى؛ منها:

قوله: (من) معناها الانتساب إلى القبيلة أو نحوها؛ يقال: (فلان من قريش) أو (من تميم)؛ أي هو منسوب إلى هذه القبيلة، وكذلك قوله: (من ذهل بن شيبانا).

وفي البيت أيضًا إشارة إلى ما كانوا عليه من الاهتمام بالأنساب وحفظها.

* (البيت الثاني):

            إذَنْ لَقامَ بنَـصْري مَعْشَـرٌ خُشُنٌ

              

عندَ الـحَفِيـظةِ إنْ ذو لُوثةٍ لَانَا

استشهد به بعضُهم([3]) على مجيء (إذن) بدلًا من جواب الشرط؛ كأنَّه أجيب بجوابين. التحرير والتنوير (5/ 115)، وذلك في عدد من الآيات، كقوله تعالى {وإذًا لآتيناهم من لدنا أجرًا عظيمًا}، وقوله: {وما كنت تتلو من قبله من...} وقوله: {ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتًا (66) وإذا لآتيناهم من لدنا أجرًا عظيمًا (67)} التحرير والتنوير (5/ 236).

{وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذًا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعًا} التحرير والتنوير (5/ 236).

وجعل جواب القعود معهم المنهي عنه أنَّهم إذا لم ينتهوا عن القعود معهم يكونون مثلهم في الاستخفاف بآيات الله؛ إذ قال: {إنكم إذًا مثلهم}، فإن (إذن) حرف جواب وجزاء لكلام ملفوظ به أو مقدر. والمجازاة هنا لكلام مقدر دلَّ عليه النهي عن القعود معهم، فإنَّ التقدير: إن قعدتم معهم إذن إنكم مثلهم. ووقوع إذن جزاء لكلام مقدر شائع في كلام العرب، كقول العنبري:

  

               لو كنت من مازن لم تستبح إبلي
              إذن لقام بنصري معشــــر خشـــــن

       

بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
عند الحفيــظة إن ذو لـــوثة لانــــــــا

التحرير والتنوير (5/ 236).

قال المرزوقي في «شرح الحماسة»: «وفائدة (إذن) هو أنه أخرج البيت الثاني مخرج جواب قائل له: ولو استباحوا ماذا كان يفعل بنو مازن؟ فقال: إذن لقام بنصري معشر خشن».

قلت: ومنه قوله تعالى: {وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون} [العنكبوت: 48]. التقدير: فلو كنت تتلو وتخط إذن لارتاب المبطلون.

فقد علم أنَّ الجزاء في قوله: {إنكم إذًا مثلهم} عن المنهي عنه لا عن النهي، كقول الراجز، وهو من شواهد اللغة والنحو:

              لا تتركني فيهم شطيرا

 

    إني إذن أهلك أو أطيرا

وفي البيت شواهد صريحة أخرى؛ منها:

كلمة (نصر) في مثل قوله تعالى: {متى نصر الله}، {وما النصر إلا من عند الله}.

كلمة (معشر) في مثل قوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس}.

* (البيت الثالث):

                     قَوْمٌ إذا الشَّـرُّ أبْدَى ناجِذَيْه لهم        

 

طارُوا إليه زَرَافاتٍ ووُحْدانَا

استشهد الواحدي بهذا البيت على أنَّ (الطيران) قد يستعمل في السرعة، وذكره عند قوله تعالى: {ولا طائر يطير بجناحيه}، ونقل عن الزجاج أن ذكر الجناح تأكيد؛ ثم قال([4]):  «وأراد بهذا أن الطيران قد يستعمل لا بالجناح كقول العنبري» ثم ذكره.

وقال السمين الحلبي([5]): «لأن الطيران يستعار في السرعة».

وقال ابن عاشور([6]): «والخفاف والثقال هنا مستعاران لما يشابههما من أحوال الجيش وعلائقهم».

واستشهد به الواحدي أيضًا على أن قوله (زرافات ووحدانا) معناه: (علي أي حالوا كانوا)؛ وجعله نظير قوله تعالى: {فانفروا ثبات أو انفروا جميعًا}، وقال([7]): «يقول: انفروا جماعات متفرقة، أو انفروا جميعًا بعضكم إلى بعض، أي على أي صفة كانت من الاجتماع في النفر والوقوف ليتلاحق الآخر والأول، والمبادرة وترك التفريج للتلاحق. ولهذا المعنى أراد الشاعر لما قاله» ثم ذكره.

وقال: «ومثله قوله: {فإن خفتم فرجالًا أو ركبانًا}».

واستشهد ابن عاشور بكلمة (قوم) على أن المراد (قوم هذه سجيتهم)؛ وذكره عند قوله تعالى: {وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون}، وقال([8]): «لأن اجتلاب لفظ قوم هنا مع صحة حلول غيره محله يشير إلى أن الوصف المذكور بعده من مقومات قوميتهم؛ لأنه صار من خصائصهم».

وفي البيت شواهد صريحة أخرى؛ منها:

مجيء الفاعل بعد (إذا) وتقدير الفعل قبله؛ في مثل قوله تعالى: {إذا السماء انشقت}.

قلب الواو المضمومة همزة في قوله (وحدانا)؛ لأن البيت يروى (أحدانا)، وذلك نظير قوله تعالى: {وإذا الرسل أقتت} إذ قرئ (وُقتت) بالواو.

* (البيت الرابع):

                        لا يَسْألونَ أخاهم حِينَ يَنْدُبُهُمْ             

 

في النائباتِ على ما قال بُرْهانَا

استشهد به الزمخشري على استعمال (الأخ) في أخوة القبيلة؛ وذكره عند قوله تعالى: {إذ قال لهم أخوهم نوح}، فقال([9]): «قيل: أخوهم؛ لأنه كان منهم، من قول العرب: يا أخا بني تميم، يريدون: يا واحدًا منهم. ومنه بيت الحماسة»، فذكره.

واستشهد به أبو حيان على معنى العشيرة؛ عند قوله تعالى: {ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم}، فقال([10]): «لأن بها التناصر، وبهم المقاتلة والتغلب والتسرع إلى ما دعوا إليه، كما قال»، ثم ذكره.

واستشهد به الآلوسي على أن نفي المضارع يفيد نفي العادة؛ وذكره عند قوله تعالى: {لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر}، قال([11]): «ونفي العادة مستفاد من نفي الفعل المستقبل الدالّ على الاستمرار، نحو فلان يقري الضيف ويحمي الحريم، فالكلام محمول على الاستمرار...».

وفي البيت شواهد صريحة أخرى؛ منها:

كلمة (يسأل) في مثل قوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة}، {لا يسألون الناس إلحافًا}.

كلمة (برهان) في مثل قوله تعالى: {قل هاتوا برهانكم}، {قد جاءكم برهان من ربكم}.

* (البيت الخامس):

                    لكنَّ قَوْمي وإنْ كانوا ذَوِي عَدَدٍ

 

           لَيْسُوا مِنَ الشـرِّ في شـيءٍ وإنْ هانَا

قوله: (ليسوا من الشر) أي ليسوا من أهله؛ فهم بريئون منه؛ ونظير ذلك قوله تعالى: {ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء}؛ أي فقد برئ من الله وبرئ الله منه، ويقرب منه قوله: {فمن شرب منه فليس مني}.

وقد استشهد ابن عاشور بهذا البيت على أن كثرة العدد ممدوحة عند العرب؛ في مثل قول الشاعر: (وإن كانوا ذوي عدد).

وذكر على ذلك شواهد أخرى من كلام العرب([12]).

* (البيت السادس):

                      يَجْزُون مِن ظُلمِ أهلِ الظلمِ مَغفِرةً

 

         ومِنْ إساءةِ أهلِ السُّوءِ إحسانَا

استعمال (من) في هذا البيت معناه البدل والعوض؛ فهو نظير قوله تعالى: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة}؛ أي بدلًا من الآخرة([13]).

ومن المعلوم أن الشاعر ساق هذا البيت على سبيل الذم؛ لأنَّ المقصود العجز([14]). لكن أبا حيان استشهد به على سبيل المدح؛ وذكره عند قوله تعالى: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا}، فقال([15]): «وبالجملة لا يكافئون الشر بالشر كما قال الشاعر» ثم ذكره.

وفي البيت شواهد أخرى صريحة؛ منها:

كلمة (ظلم) في مثل قوله تعالى: {لا ظلم اليوم}، {ولم يلبسوا إيمانهم بظلم}.

كلمة (مغفرة) في مثل قوله تعالى: {قول معروف ومغفرة}، {وسارعوا إلى مغفرة}.

كلمة (سوء) في مثل قوله تعالى: {يسومونكم سوء العذاب}، {لا يحب الله الجهر بالسوء}.

كلمة (إحسان) في مثل قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}، {وبالوالدين إحسانا}.

* (البيت السابع):

              كأنَّ ربَّك لم يَـخـلُقْ لِـخَشْيـتِه

            

سِواهُمُ مِن جميعِ الناسِ إنسانَا

فيه شواهد صريحة على بعض الألفاظ المشهورة؛ منها:

كلمة (يخلق) في مثل قوله تعالى: {كذلك الله يخلق ما يشاء}، وقوله: {ويخلق ما لا تعلمون}.

كلمة (خشية) في مثل قوله تعالى: {يخشون الناس كخشية الله}، وقوله: {خشية إملاق}، و{خشية الإنفاق}.

وفيه شاهد على استعمال (سوى) لغير الاستثناء.

وإلى لقاء آخر، مع قطعة أخرى، وتدريبات أُخرى، إن شاء الله تعالى.

 

 

([1]) تفسير الطبري (1/12) بتصرف يسير.

([2]) في: التحرير والتنوير (1/ 485) بتصرف يسير.

([3]) ينظر: حاشية السيوطي على البيضاوي (3/ 171)، وحاشية الشهاب على البيضاوي (3/ 151)، والتحرير والتنوير (5/ 115)، وأيضًا (5/ 236).

([4]) في: التفسير البسيط (8/ 111)، وعنه: الرازي في تفسيره (12/ 524).

([5]) في: الدر المصون (4/ 611).

([6]) في: التحرير والتنوير (10/ 206)، وينظر: المفردات في غريب القرآن (ص: 529)، والبرهان في علوم القرآن (2/ 426)، والعذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (1/ 209).

([7]) في: التفسير البسيط (6/ 584)، وعنه الرازي في تفسيره (10/ 138).

([8]) في: التحرير والتنوير (11/ 297).

([9]) في: الكشاف (3/ 323)، وعنه: القرطبي (13/ 119)، والبحر المحيط (8/ 175).

([10]) في: البحر المحيط (10/ 131)، وينظر: الدر المصون (10/ 275).

([11]) في: روح المعاني (5/ 301).

([12]) في: التحرير والتنوير (7/ 62).

([13]) ينظر: اللباب للعكبري (1/ 354)، وشرح التسهيل لابن مالك (3/ 134)، والجنى الداني (ص: 310)، وأوضح المسالك (3/ 23)، ومغني اللبيب (4/ 146).

([14]) ينظر: حاشية الشهاب علي البيضاوي (3/ 305)، وأيضًا (7/ 373).

([15]) في: البحر المحيط (6/ 381)، وينظر: روح المعاني (7/ 135).

الكاتب

الأستاذ أبو مالك العوضي

باحث مصري له عدد من الأعمال في مجال الدراسات القرآنيه.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))