التفسير باعتباره خطابًا
المؤسسات، والمصطلحات، والسلطة

المترجم : مصطفى هندي
تتزايد في الآونة الأخيرة الدراسات الغربية التي تحاول تقديم تصورات جديدة حول تاريخ التفسير وتصنيفه وطبيعته المنهجية في محاولة للخروج من الأُطر التي وضعتها الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية لدراسة هذا الحقل، في هذه الدراسة تحاول يوهانا بينك وعبر تفريقها بين التفسير (كنوع نصي) والتفسير (كممارسة نصية) لَفْت النظر لما يؤدي إليه حصر دراسة التفسير في المدونات التفسيرية من تجاهل مساحات تعاطي تأويلية أوسع مع القرآن شهدها التقليد الإسلامي، كما تحاول وعن طريق توظيف مفاهيم السلطة والخطاب بالمعنى الفوكوي، توضيح كيفية تأثير تبنّي تصنيفات معينة للتفسير خصوصًا ما يقوم على المذهب، على طبيعة دراسة التفاسير بل على تجاهل الكثير من التفاسير خارج السياق السّني.

  تهتم الكثير من الدراسات الغربية المعاصرة للتفسير، بالخروج من الأطر والحدود التي وضع فيها التفسير ضمن الدراسات الغربية الكلاسيكية، سواءٌ على مستوى تحديد طبيعة الحقل نفسه أو طبيعة مؤلفاته أو على مستوى تحقيبه وتصنيفه، أو على مستوى تلك المساحات من تاريخه التي تحظى باهتمام ومركزية في مقابل مساحات أخرى، يظهر هذا في اهتمام كثير من الدراسات المعاصرة بطرح رؤى أخرى حول تصنيف التفاسير التراثية، واهتمامها بالسؤال عن طبيعة التفسير من حيث هو نمط أو نوع خاص من التصنيف، وكذلك اهتمامها بدراسة المرحلة الكلاسيكية في التفسير على حساب المرحلتين؛ المبكرة والوسيطة، هاتان المرحلتان اللتان حظيتا دومًا بالاهتمام الأكبر.

في هذا السياق تحضر مقولة النوع الأدبي GENRE في بعض الكتابات وكما تخبرنا أولريكا مارتنسون في عرضها لكتاب كارين كاور (أهداف كتب التفسير ومناهجها وسياقاتها، القرون: الثاني/ الثامن- التاسع/ الخامس عشر)، في محاولة لفهم البناء الخاص لمؤلفات التفسير، تلك الملامح الخاصّة التي تفرقه عن الحقول المعرفية الأخرى، الطرق التي يبني بها متونه وينظم بها مصادره وأدواته.

ويحضر النوع هنا في هذه الدراسة ليوهانا بينك، في خطوة أبعد قليلًا، حيث تحاول بينك توظيف هذه المفهوم في بيان اشتمال مفهوم التفسير على دلالتين أساسيتين؛ التفسير كنوع خاصّ في التأليف أو (نوع نصِّي) وهو ما يشير للمدونات التفسيرية، والتفسير بما هو (ممارسة) يمكن ملاحظتها في مساحات كثيرة خارج المدونات التفسيرية، أي الكتابات الفقهية والعقدية وغيرها، ومن خلال هذا التفريق تحاول بينك بيان كون معظم الدراسات المعاصرة سواءٌ الغربية أو العربية للقرآن غالبًا ما تتعلق بالدلالة الأولى فحَسْب، أي التفسير بما هو نوع نصي مهملة دراسة التفسير كممارسة، وهو ما يهمل في نظرها مساحة واسعة من الإنتاج الإسلامي، فالتفسير بما هو نوع نصي يمثل بالفعل اشتغالًا إسلاميًّا علميًّا راسخًا ومهمًّا، لكنه لا يشكل كل الإنتاج الإسلامي في التفسير.

وضمن هذه الإشكالات الناتجة وَفق بينك من الاقتصار على دراسة التفاسير فحَسْب، وكذلك تبنِّي معظم الدارسين المعاصرين لبعض الرؤى العامة في تصنيف التفاسير المطبوعة، تظهر العديد من المشكلات حول تصنيف التفاسير وفهم دور المذهب في بناء التفسير وكذلك فهم طبيعة النصوص التفسيرية نفسها.

في هذا السياق توظف بينك بعض المفاهيم مثل السلطة والخطاب بالمعنى الفوكوي، لتبرز كيف أن عملية التصنيف المذهبي للتفاسير والتي شاعت في الكتابات العربية والغربية مع الذهبي وجولدتسيهر =قد تكون مشوشة على فهم التفسير، حيث إن عملية تصنيف تفسير أو اعتباره ممثلًا (للأرثوذكسية) أو التفسير القويم، هي عملية خطابية بالأساس وتقوم على إستراتيجيات السلطة، فلا يمكن وجود أرثوذكسية دون أدوات ترسخها، مما يجعلها بالأساس مسألة تتعلق بسياق تاريخي محدد، وهذا يعني عدم إمكان استخدام مقولة الأرثوذكسية نفسها كمقولة علمية تحليلية في حقل دراسات التفسير، بل لا بد أن تخضع هي ذاتها للتحليل، كما لا بد من التنبه لكون المشتركات في التفسير كنوع نصِّي من حيث مناهجه وأساليبه أوسع من مساحة الخلاف العقدي، كذلك فإن هذا قد أدى -وكما ترى بينك- لاهتمام أوسع بالتفاسير السنيّة على حساب غيرها من تفاسير، مما يعني حدوث تجاهل آخر لمساحة واسعة من مساحة التفسير كنوع نصي.

 كما تعيد بينك -وَفق هذا المنظور- النظر في تصنيفات مثل (التفسير بالمأثور) و(التفسير بالرأي)، وتثير إشكالات تجاهل دراسة الحواشي ودراسة التراث المدرسي ودراسة الفترة الكلاسيكية في التفسير ودراسة الترجمات الإسلامية التي ربما لا تنتمي للشكل المعاصر من (الترجمة) مما يؤدي لتجاهلها من قبل المعاصرين بالذات، وترى أن هذا من شأنه تطوير النظر للتفسير سواءٌ داخليًّا (التفسير كنوع خاص من التأليف) أو كممارسة نصية، أو خارجيًّا (أي مجمل مساحات التفسير الإسلامي للقرآن).

إن أهمية هذه الورقة تأتي من أنها تثير عددًا من الإشكالات حول الدراسة المعاصرة الغربية والعربية للتفسير، كما تستخدم عددًا من الأدوات والمفاهيم المنهجية المعاصرة في محاولة لفهم التفسير بما هو أوسع من المدونات التفسيرية، أي كخطاب له عديد من الأدوار والوظائف، وهو ما يعِين على التعرف على جانب من الجدل الغربي المرتبط بالتفسير وكيفية نظرته للتفسير وحدوده ونظرته لقضايا كتصنيف التفاسير، وغير ذلك، الأمر الذي يعمق الوعي بالدرس الغربي حول التفسير والتثاقف مع معطياته.

المؤلف

يوهانا بينك - Johanna Pink

باحثة ألمانية، أستاذ الدراسات الإسلامية وتاريخ الإسلام في جامعة فرايبورغ.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))