القراءات الحداثية للقرآن
(3-3)

ضيف الحوار : محمد كنفودي
يستمر حديثنا مع أ/ كنفودي حول القراءات الحداثية للقرآن، وبعد أن تناول الجزآن السابقان المحددات الرئيسة لهذه القراءة وأهم الأفكار التي أثارها اشتغالها، يتناول الجزء الثالث والأخير نتاج طه عبد الرحمن الذي يقدّم نقدًا خاصًّا لهذه القراءات ويؤسّس بديلًا لها.

مقدمة:

يستمر الحديث مع الأستاذ/ محمد كنفودي، حول القراءات الحداثية للقرآن؛ وبعد أن تناول حديثنا في الجزأين الأول والثاني من هذا الحوار المحددات الرئيسة للقراءة الحداثية للقرآن، والبناء المنهجي لهذه القراءة، وكذلك بعض أهم الأفكار التي أثارها الاشتغال الحداثي على النصّ القرآني؛ مثل القصة القرآنية ووحدة النصّ وفكرة التاريخية، فإنّ هذا الجزء الثالث والأخير يتناول نتاجًا خاصًّا يقف داخل هذه القراءات وخارجها، والمقصود نتاج الفيلسوف المغربي/ طه عبد الرحمن، حيث يقدِّم نقدًا مغايرًا عن السائد لهذه القراءات واصفًا لها بالحداثة المقلّدة والإبداع المفصول، ليؤسّس هو قراءته القائمة على الحداثة المبدعة والإبداع المأصول، حيث يوضح الأستاذ (كنفودي) في هذا الجزء الدلالة المحددة للإبداع المأصول الطهائي، كما يختتم حديثنا معه بمحاولة استشراف آفاق القراءات الحداثية، ومدى أثرها على ساحة الدرس القرآني.

وفيما يلي نصّ الحوار:

نص الحوار

المحور الثالث: طه عبد الرحمن والقراءة الحداثية للقرآن:

س1: لكم اهتمام بالفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، وهو معروف بأن له موقفًا نقديًّا من القراءات الحداثية ويصفها بالحداثية المقلّدة. ما رؤيتكم لمنظوره؟ وكيف يفترق نقده للقراءات الحداثية عن ما يقدّم غيره من نقُودات لها نفسها؟

أ/ محمد كنفودي:

ما يميز طه عبد الرحمن، وكذا أبا يعرب المرزوقي، هو التمكّن من المضامين المفصلية في مختلف حقول التراث العربي الإسلامي، خصوصًا ما تعلّق بالحقول المعرفية الكبرى؛ كاللغة والفلسفة والمنطق، فضلًا عن الفلسفة الحداثية،الأمر الذي جعل الاجتهاد الطهائي -بالنظر إلى العدّة المنطقية والفلسفية واللغة التراثية، خصوصًا على مستوى النقد- نافذًا لأغوار مآلات (القراءات الحداثية للقرآن)، وهذا ما جعل نقده يتميّز عن غيره، القائم في عمومه على معايرة (القراءات الحداثية) بموافقتها أو مخالفتها للتفسير التراثي المعهود منهجيًّا ومعرفيًّا. وقد ميّز طه عبد الرحمن في (القراءات الحداثية للقرآن) بين (القراءات المقلّدة)، ذات منزع (النقل) عن (واقع الحداثة الغربية السياقية) و(القراءات المبدعة) ذات منزع (الوصل) المتشبع بـ(روح ومبادئ الحداثة المتعالية) في بُعدها المجرد، حسب مراعاة (إمكانات التطبيق). والنقد الطهائي في عمومه لأهل (قراءات القاصرين لا الراشدين)[1]، يلاحظ عليه أمور؛ منها:

أولًا: إخراج ما حقه الإدخال في النقد؛ إِذْ قد أخرج القراءة المعاصرة لمحمد شحرور وكذا قراءة عبد الكريم شروس، بدعوى أنّ القراءة الأولى وصفها صاحبها بـ(المعاصرة)، التي انتُقدت من قِبَل أهل (القراءات الحداثية المقلدة)، علمًا أن ما أثاره عبد الكريم شروس، خصوصًا فيما يتعلّق بموضوع النبوّة وعلاقة الرسول -عليه السلام- بالقرآن، كان حقّهما أن يدرجا ضمن النقد. فضلًا عن أنّ تاريخية النصّ من منظور محمد شحرور وإن كانت أقلّ حدّة من تاريخية محمد أركون، إلا أنها في تاريخية. فضلًا عن أن ما أثاره محمد شحرور وعبد الكريم شروس، تفوق حدّته وصرامته ما وضعه أهل (القراءات الحداثية المقلدة).

ثانيًا: إن أصاب النقد الطهائي في رصد بعض (العمليات المنهجية) التي تتبعها (القراءات الحداثية المقلدة)، فليس ذلك حقّه التعميم؛ إذ ليس كلّ أهل (القراءات الحداثية) كان سعيهم ينحصر في رفع (عائق القدسية) عن النصّ القرآني. وكذا الأمر يقال بالنسبة لـ(العمليات المنهجية) المتعلقة برفع (عائق الغيبية) و(عائق الحكمية).

ثالثًا: إنّ النقد الذي صنفه طه عبد الرحمن لـ(القراءات الحداثية القاصرة)، يلحظ الناظر فيه أنه ذو صبغة إبطالية تقويضية، دون أن يلمس الناظر فيه اعترافًا بصحةِ اجتهادٍ وبصوابِ الرأي، خصوصًا لمّا يتعلق الأمر بقراءة محمد أركون ونصر حامد أبو زيد والطيب التيزيني، باستثناء اجتهاد القراءة المعاصرة لمحمد شحرور وعبد الكريم شروس بصورة عامة.

رابعًا: يلاحظ أنّ الهمّ الطهائي في النقد الموجَّه لأهل القراءات الحداثية ذو فرعين؛ أولهما: بيان صلتها بالمنقول الغربي الحداثي بمختلف المسالك، وهذا هو الغالب. ثانيهما: بيان انفالصها عن المعهود التراثي في مجال التفسير.

وعليه؛فإنّ النقد الطهائي بقدر ما تميّز عن غيره ممّن تعاطى لنقد (القراءات الحداثية المقلدة)، القائم على النقد الظاهري، المشفوع بالحكم الديني تكفيرًا وتبديعًا ونحو ذلك، فقد كان نافذًا لا حكم ديني فيه، فضلًا عن أنه يتفق مع غيره بصورة غير مباشرة ما دام أن النقد يتغيَّا الإبطال والإزالة باتباع وسائل شتى، خصوصًا لمّا تكون تلك الوسائل ذات صلة بالنصّ القرآني، وفي المقابل غيّب البحث في ما يمكن أن يتخذ مجالًا للتطوير والتكميل، من باب التراكم المنهجي والمعرفي، الذي هو قاعدة (الإبداع) أو (إعادة إبداع الإبداع) حسب التعبير الطهائي، وهذه آفة منهجية ومعرفية تعيق تطوير النظر في النصّ القرآني كما سلف البيان، إذ لا يتناسب مع هذا الأمر إلا النقد البنائي، لا النقد الإبطالي تدميرًا وهدمًا، كما هو شأن محمد أركون مع الموروث التفسيري.

س2: وهل نستطيع أن نجرد من اشتغال طه عبد الرحمن نوعًا من (القراءة الحداثية المبدعة) قائمة على الاشتغال الموصول لا المفصول مع التراث؟

أ/ محمد كنفودي:

مفهوم (المأصول) أو (الموصول) في المتن الطهائي في مقابل مفهوم (المنقول) أو (المفصول) -ذو دلالتين؛ أولاهما: الوصل مع (حي) التراث العربي الإسلامي، وثانيهما: الوصل مع النصّ القرآني. بناءً على هذا، فإنّ الأمر في حقيقته لا يتعلق بإمكان ذلك أو عدم الإمكان، بل مناط الأمر كامن في أمرين متلازمين؛ أولهما: معنى (الإبداع) في (القراءة الحداثية المبدعة)[2]. وثانيهما: تنزيل (الآليات مأصولة) كانت أو (منقولة) على النصّ القرآني، لتحقيق منشود (الإبداع) أو (إعادة إبداع الإبداع)، درءًا للسقوط في آفة (التقليد الاستنساخي الاتباعي). فمفهوم (الإبداع) في (القراءة الحداثية المبدعة)، يتوقف على جملة شروط كلية ناظمة، منها:

أولًا: سلامة منهج النظر؛ ومعيار سلامته موافقته لخصوصية النصّ القرآني، إِذْ هو بحكم (تبيانه لكلّ شيء)، فتبيانه قائم على منهج محدّد، تعين أن يستنبط منه داخليًّا، ولا يؤتى به من الخارج جاهزًا.

ثانيًا: إيجاد الأجوبة الصحيحة الشافية الفائقة لمختلف المشاكل والإشكالات التي يحياها الإنسان تجريدًا في السياق المعاصر، بمختلف تعلقاتها المجالية، خصوصًا وأنّ القرآن فيه (تبيان لكلّ شيء)، وخطاب للناس كلّهم جميعًا.

ثالثًا: تحقيق (الشهادة على الناس بحقّ)، من خلال تقديم الأنموذج الفعال المحوج للآخر طوعيًّا، دون قهر ولا إجبار.

رابعًا: الاستلهام من (التراث العربي الإسلامي) وكذا من (الحداثة الفكرية الغربية) ما هو (حي) مفارق للسياقات التاريخية، لا ينافي (الإبداع) المعتبر والمحرّر على أصوله، بل هو شرطه الأساس.

 في المقابل،فإنّ (الآليات) بوصفها و(سائل ومعابر منهجية)، يتوسل بها في هذا السياق لاستنباط المعاني من النصّ القرآني، تعيّن أن تتحدّد بجملة محددات، بغضّ النظر عن كونها (مأصولة) أو (منقولة)، ومنها:

أولًا: التمييز فيها بين الملازمة للسياق التاريخي أو مفارقتها تعاليًا عنه، ذلك أن الاجتهاد الإنساني تجريدًا يدور بين هذين الأمرين الناظمين، مع الاختلاف في النسبة فقط.

ثانيًا: النظر فيها من زاوية كونها تحافظ على خصوصية نصّ وحي القرآن، أو تصادرها إلغاءً، بطرق مباشرة أو غير مباشرة.

ثالثًا: التمييز فيها بين ما ثبتت علميته موضوعيًّا وبين ما زال في طور الفرض والافتراض؛ إذ المعابر المنهجية تتقيد بهذا الأمر.

رابعًا: النظر إليها من زاوية كونها تحافظ على صفتها الإجرائية، أم أنها تتعداها لتحكم على النصّ المقروء-القرآني بحكمٍ ما.

وعليه؛ فإنّ جملة من اجتهادات (القراءات الحداثية المقلدة للقرآن) حسب الوصف الطهائي، غيّبت هذه المحددات في تنزيل (الآليات المنهجية المنقولة) على النصّ القرآني، كما يظهر ذلك في بعض اجتهادات محمد أركون؛ إذ عمد إلى تنزيل كلّ ما ظفر به في فضاء (الحداثة الفكرية الغربية) كما هو -انبهارًا- دون تدخّل، من دون (التبييء) أو (إعادة الإبداع) أو (تصويب) أو (تأصيل) ونحو ذلك، مما جعله كحاطب ليلٍ. وفي المقابل، فإنّ عدة اجتهادات لأهل (القراءات الحداثية)، غيّبت أيضًا هذه المحددات في تنزيل (الآليات المنهجية المأصولة) على النصّ القرآني، كبعض اجتهادات محمد عابد الجابري، فيما يتعلق باعتماده على مرويات أسباب النزول والمعهود العربي قبل النزول بنوعيه؛ الكلامي التعبيري والثقافي الحضاري. فمدار الأمر -بالتّبع- على سلامة التأصيل وحسن التنزيل.

بناء على ما تقدّم، فإنّ الاجتهاد الطهائي وإن كان نموذجًا واعدًا في الباب، بالنظر إلى العدة المنهجية المأصولة والموصولة، التي لا تقاطع (التراث) بدعوى أنه تراث، ولا تخاصم (الدين-القرآن) بدعوى أنه ماضٍ على مستوى النزول والتعلق التعبدي؛ فإنه في المقابل تحتفّ به جملة من الآفات، نورد منها إجمالًا ما يأتي؛ أولها: النقد المبالغ فيه للفكر الحداثي الغربي المفضي للقطيعة المطلقة والحادة معه، علمًا أن بعضًا منه -بشهادة طه عبد الرحمن- ناشئ عن الدّين وقيمه المفارقة، وإن تغيَّرَت التعابير المعربة عنه بصيغ أخرى مستحدثة. ثانيها: المغالاة في التجريد؛ خصوصًا على مستوى المعاني المستنبطة من القرآن، وكأنّ المتن الطهائي يخاطب إنسانًا غير هذا الإنسان. ثالثها: الغلوّ في الشكلانية، القائم على أسلوب التشقيق والتفريع المبالغ فيه، والذي -في كثير من السياقات- يُفقِد الاجتهاد معناه ومغزاه منهجيًّا ومعرفيًّا.

س3: طه عبد الرحمن له قراءة خاصّة للتراث كما تعلمون، حيث يتعارض مع رؤية الجابري مثلًا وتقسيمه للعقول: (بيان، عرفان، برهان)، ويقترح -بديلًا عن رؤيته- تقسيمًا آخر للعقول: (عقل مجرد، عقل مؤيد، عقل مسدد). في ضوء رؤيتيهما للتراث، هل بالإمكان مقارنة اشتغالهم على القرآن والفوارق بين قراءاتهما؟

أ/ محمد كنفودي:

من المعلوم أنّ قراءة (التراث العربي الإسلامي) في (الفضاء المغاربي) عمومًا وفي (المغرب) خصوصًا، اختلفت باختلاف مناهج القراءة وأدواتها والمقاصد المتغياة منها، وهذا يصدق على قراءة محمد عابد الجابري في نظريته المسماة بـ(نقد العقل العربي)، القائمة على التجزيء المفضي للتفضيل، وقراءة طه عبد الرحمن في نظريته (سؤال تجديد المنهج)، في مصنفاته: تجديد المنهج في تقويم التراث، سؤال المنهج، تجديد علم الكلام، اللسان والميزان، والقائمة على التداخل المفضي للتكامل. والنقد الطهائي للطرح الجابري محكوم بما سلف ذكره، من حيث رصد النقد السالب قدحًا، دون الاهتمام بالنظر التكميلي تطويرًا، فضلًا عن ما يتعلق بالمنحى الأيديولوجي، القائم على التصارع بين فضاء التفلسف وفضاء التصوف، وإن كان ليس مصرحًا به في النقد الطهائي، إلا أنّ النظر المتمعّن يكشفه لنتوئه.

ثلاثية محمد عابد الجابري المعرفية كانت غائبة في (قراءة جديدة للقرآن)، التي وصفها بـ(فهم القرآن الحكيم؛ التفسير الواضح حسب ترتيب النزول)، باستثناء قاعدة (الاسترجاع) والإعادة؛ إِذْ خطّ محمد عابد الجابري فيها ما كان قد تناوله في مصنفات (نظرية نقد العقل العربي)، كما هو ملاحظ في الاستطرادات والتعاليق والمقدمات والهوامش ونحوها. في المقابل، فإنّ طه عبد الرحمن على عكس محمد عابد الجابري، إِذْ ثلاثيته حاضرة في مختلف مصنفاته بصور عديدة؛ تأسيسًا ونقدًا. إِذْ ما يزال المتن الطهائي ناقدًا قصور (العقل المجرد) المتمثل في اجتهادات علم الكلام والفلسفة، وكذا نقد (العقل المؤيد) المتمثّل في حقل الفقه والتفسير، وإنْ بصورة وحدة أقلّ -وكاشفًا في المقابل تميّز (العقل المسدد) كما هو في الحقل الصوفي، كاسيًا إياه حلة فلسفية ومنطقية ولغوية جديدة أو حداثية، أو قُل: ائتمانية، فضلًا عن ذلك يجتهد طه عبد الرحمن في قراءته (الحداثية المبدعة) أو (الائتمانية) من المنظور الإسلامي، التأسيس لجملة مسائل متعلقة بنظرية (العقل) عمومًا، و(العقل المسدد) خصوصًا، ومن أهمها:

أولًا: مسلّمة فعلية العقل.

ثانيًا: تراتبية نظر الفعل العقلي.

ثالثًا: اتساع أو تكوثُر نظر الفعل العقلي.

رابعًا: توقف تسديد وتكوثُر نظر الفعل العقلي على المعاني الإيمانية المستنبطة من النصوص القرآنية.

خامسًا: وضع منهج (الفلسفة الائتمانية) في النظر التأسيسي والنقدي، وفق مقتضيات العقل المسدد[3].

 فضلًا عن ما تقدم، اختلفت نظرة محمد عابد الجابري إلى النصّ القرآني منهجيًّا ومعرفيًّا، عن منظور طه عبد الرحمن، نظرًا لاختلاف المقاصد الحاكمة لتجديد النظر، فضلًا عن اختلاف اشتغالهما في فضاء (التراث العربي الإسلامي).

س4: طه عبد الرحمن له انتقاد لمجمل القراءات الحداثية للقرآن بأنها واقعة في آفة التجريد، بمعنى أنها تنظر للقرآن ككتاب يمكن الوصول لمعانيه عبر التحليل النظري فحسب، وهو ما يتعارض مع ارتفاع هذه المعاني عن أن يوفي بها محض الاشتغال النظري المجرد عن الملابسة والمعاينة. هل تتفقون معه في هذه الرؤية؟ وهل يوفر خطابه إمكانات لتجاوز هذه الآفة؟

أ/ محمد كنفودي:

إنّ الفكر الإسلامي المعاصر بعلّة كونه قائمًا على (الاشتغال الفردي)، وعدم الارتقاء إلى (الاجتهاد المؤسسي)، تجد أنه بقدر ما يهدر جهودًا، فإنه يولد جُزُرًا مفصولة بين المشتغلين تحت مظلته. بناءً على هذا، فإن الاجتهاد الطهائي بقدر كونه يأخذ على مخالفيه في النظر الوقوع في أَسْر التجريد في النظر إلى نصٍّ ذي طبيعة عملية أصلية وأصيلة؛ كالنصّ القرآني، وبعضٌ من هذا النقد متحقّق، خصوصًا من قِبل أهل (القراءات الحداثية) ذات المنهج القرائي القائم على التحليل اللغوي الألسني والسميائي؛ كمنزع محمد أركون. فإنّ اجتهاد طه عبد الرحمن بدوره لمّا يقارب جملة من المسائل القرآنية ذات الطابع الإيماني، فإنه هو بدوره يوغل في (التجريد)، فضلًا عن طغيان (الشكلانية) وغيرهما، كما سلف القول.

انتقد طه عبد الرحمن كثيرًا «العقل المجرد» المتمثّل في حقل علم الكلام والفلسفة، بالنظر إلى كونه يغيب «العمل» و«الممارسة»، إلا أنّ الاجتهاد الطهائي في المقابل وقع بدوره في آفة «التجريد» ونقيضه «التجسيد»؛ فممّا يدلّ على «التجريد»، نورد باقتضاب من باب التمثيل ما يأتي:

أولًا: إنّ النظر الطهائي إذا كان منتقدا لـ«العقل المجرد» لحدوده، ولـ«العقل المؤيد» لآفاته، ومفضلًا في المقابل لـ«العقل المسدد»، الذي من أهم مصاديقه «المجال الصوفي». ومن المعلوم أن التصوّف، على الأقل كما هو في التاريخ الإسلامي، هو في أصله أبواب مشرعة للتجريد المغالي؛ سواء عن طريق التعابير المجازية أو الإشارات المغالية. وعمومًا فإنّ ما يضفيه المتن الطهائي على «العقل المسدد»، يمكن أن يصبغ به أيضًا «العقل المجرد» و«المؤيد». لذلك يبقى «التجريد» و«العمل» نسبيين، وإن تفاوتا في علاقتهما بمراتب العقول الثلاثة حسب التصنيف الطهائي.

ثانيًا: إنّ مفهوم «التكوثر» الطهائي؛ سواء في علاقته بما سماه الإنسان الجديد، المتكوثر، أو بدلالات النصوص القرآنية، أو بـ«العقل»، لا يخلو بدوره من تجريد. ذلك أن «التكوثر» بالمعنى الطهائي، لا ماصدق له في الوجود الإنساني، باستثناء «عالم المثُل».

ثالثًا: إن مجمل ما يؤسّسه الاجتهاد الطهائي، خصوصًا التأسيس الفلسفي للمنهج «الائتماني»، هو في أصله نظر. والنظر قاعدته «التجريد»، على الرغم مما يكثره المتن الطهائي من إيرادات، قصد إخراجه عن ناظم «التجريد».

وعليه؛ فإن «التجريد» وإن لم يكن مذمومًا بإطلاق، فإنّ المتن الطهائي له نصيب وافر من «التجريد»، إنْ تعريفًا أو تقسيمًا أو  تمثيلًا ونحو ذلك. بل إنّ الاجتهاد الطهائي يقع أحيانًا في سياقات عديدة، في الآفة المناقضة لـ«التجريد»، وهي «التجسيد»، خصوصًا فيما حقه «التجريد» على المستوى الاعتقادي[4].

س5: لو حاولنا النظر في واقع القراءات الحداثية للقرآن واستشراف بعض مآلات حضورها على ساحة الدراسات القرآنية، هل نستطيع القول بأنّ ثمة حوارًا منهجيًّا بينها وبين غيرها من القراءات؟ وكذلك بينها وبين معارضيها؟ وقبل هذا بينها وبين المدونة التراثية قد يسفر عن بعض الحراك على ساحة درس القرآن؟

أ/ محمد كنفودي:

سلف القول بأنّ من أهم النواظم التي تشكل عمدة «القراءات الحداثية للقرآن»؛ ناظم «القطيعة»، ليس بينها وبين «التفسير التراثي» فحسب، بل كذلك في علاقة «القراءات الحداثية» بعضها ببعض، فمحمد شحرور لا يهتم بقراءة محمد أركون، ومحمد عابد الجابري لا يهتم بقراءة محمد شحرور، وطه عبد الرحمن لا يهتم بالتفسير الفلسفي لأبي يعرب المرزوقي وهكذا. وهذه «القطيعة» الثانية بصرامتها لم تكن تحدث في تاريخ الفكر الإسلامي. الأمر الذي يفضي، بناء على غياب «الاجتهاد المؤسسي»، أو على الأقل «الحوار الفكري بين المشتغلين» بـ«القراءات الحداثية للقرآن»، إلى الوقوع في آفة «البداية»، بل «بدايات البداية»، إذ الكل يبدأ من حيث بدأ غيره في الموضوع نفسه، وهذا المنحى المنهجي بقدر ما يوقف تحقيق «الإبداع» القائم على «التراكم»، فإنه يهدر الجهود. علمًا أنّ المتقدم زمانيًّا في الاشتغال بالموضوع قد يفيد المتأخّر، ونفس الأمر يتعلّق بعلاقة القراءات الحداثية للقرآن في علاقتها بالتفسير التراثي، إِذْ تتضمن «المدونة التفسيرية» الكثير مما هو «حي» مفيد؛ سواء تعلّق بما هو منهجي أو معرفي[5]، إلا أن أمر «القطيعة» على المستوى المنهجي والمعرفي، قد حال دون تفعيل الحوار مع التراث التفسيري، كما في علاقة القراء الحداثيين في علاقة بعضهم ببعض.

وعليه؛ فإنّ هذا النصّ الحواري، الذي هو في أصله صورة من صور البحث، قد أفضى إلى جملة نتائج، عبارة عن توجيهات عامة، منها:

أولًا: أن متون «القراءات الحداثية للقرآن» إبداعية كانت أو مقلدة، في حاجة ماسة إلى تعديد الدراسات وتكثير البحوث، وفق منهجي علمي موضوعي منصف، دون تحكّم ولا حكم مسبق، لتقدير الأمور حقّ قدرها؛ سواء في جانب الإصابات أو الأخطاء، ذلك أن مدار الاجتهاد الإنساني هذا ناظمه الكلي.

ثانيًا: أن هناك مجموعة من المواضيع فيما طرقه أهل الاجتهاد الحداثي، تحتاج إلى بسط القول فيها، من أهمها: «وحدة النصّ القرآني»، «المنهج التاريخي في قراءة النص القرآني»، «حدود فعالية القطيعة المنهجية والمعرفية مع النتاجات الاجتهادية في أفق التأسيس لمنهج النقد البنائي»، «القصص القرآني بين الربط التاريخي والنظر المتعالي».

ثالثًا: إن المرحلة المعاصرة تفرض ضرورة وضع «أنموذج حداثي عربي إسلامي في فضاء قراءة النصّ القرآني»، لتجديد الصلة والنظر بالنصّ القرآني، دون تنكّر لما ثبتت فعاليته ونجاعته من اجتهادات السابقين؛ سواء كانوا من المتقدين أو المتأخرين.

رابعًا: الدعوة إلى ضرورة وضع ما من شأنه أن يمهد لتأسيس «الاجتهاد المؤسسي»، في ضوء تكامل الاختصاصات والعلوم والمعارف؛ سواء في جانب النقد وبيان الأعطاب، أو التكميل والتطوير والتوضيح، أو التأسيس والإنشاء.

 

 

[1] روح الحداثة، ص193.

[2] إنّ تحقيق القول في معنى مفردة (الإبداع) في قراءة آيات القرآن أساسًا، لا يتم من منظور طه عبد الرحمن بصورة واحدة، وإنما بصور عدة: فكرية وإيمانية وأخلاقية وذوقية، ما دام أن ناظمه الأصلي الكلي (الإمكان)، وهو غير (الوجوب)، و(روح المبادرة الراشدة)، لا (التقليد والحجر القهري)، ومن صوره: الصورة الأولى: هي التي سماها المتن الطهائي بـ(الاختراع والابتكار على غير مثال سابق) منهجيًّا ومعرفيًّا، الذي يتجاوز حدود ما هو مسبوق وما هو منقول في مجالات البحث الممكنة، إلا أنه لا يكون إبداعًا معتبرًا، إلا إذا تضمن معنًى زائدًا على ما هو جديد غير مألوف، ألا وهو معنى (الجمال). فيكون -بالتبع- حد (الإبداع) المعتبر قائمًا على ركنين: (الإنشاء) و(الجمال)، أو قُل -جمعًا-: (الإنشاء الجميل). فلا إنشاء بغير إبداع، ولا إبداع بغير جمال، ولا إنشاء إبداعيًّا بغير جمال. فتكون بذلك كلّ إبداعاتنا متناسبة مع هذه القيمة الكلية الناظمة (الجمال)؛ لذلك عدّ طه عبد الرحمن (التقليد) أو (النقل التعبدي التقديسي) لَقْمًا واتّباعًا، لا يتضمن أيّ نسبة من نِسَب (الإبداع) المعتبر، وبالأولى ألّا يتضمن (جمالًا). إلا أن مسلك النقل من منظور طه عبد الرحمن ليس مرفوضًا بالجملة، ولكن يمكن أن يحقّق من خلاله الناقل نسبة من نِسَب الإبداع المعتبرة، شرط أن يظهر المنقول بين يدي الناقل، في صورة إبداع جديد، بسبب ما يضفي عليه من معالم الخصوصية وإعادة الإبداع وفق شروط المجال التداولي؛ إِذْ يصير بين يديه بقدر ما له من وجوه الإبداع المنقولة، يكون له من وجوه الإبداع المأصولة عربيًّا وإسلاميًّا، وهذا المنهج في النظر أطلق عليه طه عبد الرحمن مفهوم (إعادة إبداع الإبداع)، قصد تحصيل (القدرة على الاستقلال) ولو في المنقول. الصورة الثانية: هي التي سماها طه عبد الرحمن بـ(الاجتهاد)؛ بوصفه من المظاهر الأساسية التي يتحقق بها أو ينعكس في فضائها الإبداع، فيكون الاجتهاد كالإبداع، باعتباره يتعلق بكلّ مجالات المعرفة الإنسانية الممكنة للنظر، وليس محصورًا في مجال واحد، وهو مجال (الفقهيات)، أو قُل -حسب التعبير الطهائي-: (الفقه الائتماري)، كما هو سائد في تاريخ الفكر الإسلامي، وإلّا ضيّق وحجّر واسعًا. الصورة الثالثة: هي التي سماها المتن الطهائي بـ(التأصيل)؛ بوصفه هو بدوره المظهر الأساس للاجتهاد، ومقتضاه؛ بذل الجهد على قدر الطاقة والوسع، إلى حد الاستفراغ الكلي، قصد إخراج الشيء على غير مثال سابق، في مختلف عمليات الإخراج الإمكانية غير المعهودة، فيكون بذلك (التأصيل) أولى من (التقليد). يتحصل بناءً على ما تقدَّم أن (الإبداع) وصف كلّي متعلق بكلّ اجتهاد إنشائي أو تأصيلي جمالي إمكاني معتبر، يتجاوز حدود ما هو مسبوق أو معهود في مختلف مجالات البحث والنظر؛ سواء كان منقولًا أو مأصولًا، في زمن واحد أو في أزمنة متعاقبة تترا. الحوار أفقًا للفكر، ص151. فقه الفلسفة، ج2، ص32، 33، 34. في مقابل مفهوم (الإبداع) أعاد المتن الطهائي تحديد مفهوم (الحداثة)؛ بحيث إنها اشتقت على مستوى اللغة من حدّث يحدث تحديثًا؛ بمعنى تصيير الشيء حديثًا، أو هي مشتقة من الإحداث، وهو فعل الشيء الجديد غير المعهود في مألوف الناس، أو هي من الاستحداث، وهو جعل الشيء حديثًا. ويتم طلب استحداثه من الذات داخليًّا لا من الغير خارجيًّا، وإلّا كان نقلًا صريًحا لا جهد ولا اجتهاد ذاتيًّا فيه. فيكون الناظم الدلالي الجامع بين معنى التحديث والإحداث والاستحداث، هو إبداع الفعل داخليًّا أو ذاتيًّا. فالحداثة بهذا المعنى الكلي، تعد عبارة عن إمكانات عديدة؛ بمعنى أن الفعل الحداثي محكوم بقانون التكوثر باعتبار الواقع؛ سواء كان التعدد المتكوثر على مستوى الأماكن أو الأقطار أو المجالات أو الرتب والنِّسَب ونحو ذلك. والحداثة بالنظر إلى سياقها التاريخي، فقد اعتبرها طه عبد الرحمن مجموعةَ أحداث معلومة ونمطًا حضاريًّا معيّنًا، بدأ في التشكل والظهور في المجتمع الغربي منذ بداية القرن السادس عشر الميلادي مع حركة النهضة والإصلاح الديني في أوروبا. وعرف هذا النمط رسوخًا مع حركة الأنوار والثورة في فرنسا، ثم أخذ يتّسع مع الثورة الصناعية والتكنولوجية، وهو اليوم يكاد أن يسع العالم كله على مستوى الانتشار مع ثورة الاتصال. فالحداثة من هذا المنطلق التاريخي، هي جملة تحولات عميقة طرأت على المجتمع الغربي برُمّته من طور حضاري إلى آخر أكثر تقدمًا منه، وهذه تعدُّ سمة أساسية للحداثة الغربية في سياقها التاريخي. ولها أيضًا من منظور طه عبد الرحمن سمة أخرى متمثلة في أن تلك التحولات التاريخية كانت داخلية، وقد انصهر في بوتقتها تكاتف الإنماء والتراكم والتلقائية، ونظَمَها جمعًا لاحم الإبداع المتواصل، فكانت -بالتبع- تعكس في جوهرها في مختلف مراحلها جملة إبداعات داخلية سياقية متراكمة. روح الحداثة المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، ص16، 17، 34، 35، 37، 154، 155. فقه الفلسفة، ج1، ص23. حوارات من أجل المستقبل، ص43. الحوار أفقًا للفكر، ص96، 97.

[3] كلّ مسألة من هذه المسائل الطهائية وغيرها المتصلة بها في أمسّ الحاجة إلى بحث ودراسة، وهذا ما لا يسمح به هذا السياق.

[4] ما يدل على ذلك، هو النظر الطهائي لما وقف عند قوله تعالى: {إنّا سنُلقي عليكَ قولًا ثقيلًا} [المزمل. 4]. إذ اعتبر أن الله وصف النصّ المُلقَى-القرآن بـ«القول الثقيل»، ومنه استخرج تحديدًا ما سماه طه عبد الرحمن بـ«أركان القول الثقيل»، والتي تنحصر في ثلاثة، يتعين إبراز معالم معنى «الثقل» فيها، والذي يهمنا في هذا السياق، هو: «الثقل في المُلقِي»-الله تعالى، وهو عبارة عن ذات قدسية تتكلم من وراء حجاب الحسّ الغيبي المطلق غير المعهود للناس، وإن كلمت ذواتًا حسية مشهودة، بل إنها هي التي تخلق الكلام الحسي في مختلف الذوات المحسوسة المعتادة، والمتكلمة بطريقة من طرق البيان التي تفوق الحصر البشري المعتاد؛ لذلك، فإن «الثقل في الملقي»-القائل سبحانه وتعالى، هو «التعالي المطلق». سؤال العمل، ص191، 192.

[5] يتبين للناظر في العديد من نصوص النظر المعاصر في النصّ القرآني، تأسيس دعوى قائمة على أن مختلف ما أنشأه النظر التراثي منذ البدايات الجنينية الأولى في تاريخ الفكر الإسلامي، مرورًا بحقب الإبداع التأسيسي، إلى أزمنة المحافظة والاجترار، لا يعدو أن يكون من باب النظر الذي يعكس التاريخ، أو قل: التفاعل التاريخاني، الذي انقضت فاعليته بانقضاء زمنه. وبالتبع، لا علاقة له ألبتة بمفهوم «علم النظر المؤسس»، الذي لا تتعدى فاعليته المنهجية والمعرفية الفائقة زمن نشوئه الاجتهادي، أو قل: التأويلي. لذلك، اعتمد هؤلاء بالنظر إلى هذا الاعتبار واعتبارات أخرى ناظم «القطيعة المطلقة» مع ما أنشأه النظر التراثي المأصول منهجيًّا ومعرفيًّا كما سلف القول. نجتهد في هذا السياق النقدي لبيان أن هذا النظر أو الحكم الكلي لا ينهض على اعتبارات مرضية محرّرة، أو أسس علمية معتبرة منهجيًّا ومعرفيًّا، ومما نعتمده لتأسيس ذلك بيانيًّا التصورات الآتية: أولًا: التمييز في النظر التراثي بين ما هو تاريخاني محايث متجاوز، وما هو من علم، أو قل: من مقدمات علم النظر التفسيري منهجيًّا ومعرفيًّا: 1- إن الناظر في مختلف نصوص النظر التفسيري التراثي؛ سواء كانت جنينية أو تأسيسية أو ثانية تكرارية اجترارية، يجد أن قسمًا منه يمكن عدّه من باب ما هو تاريخاني، انقضت فاعليته الفائقة، أو قل: المتعالية، بانقضاء زمنه أو زمن إشكالاته ومشكلاته التي أوجدته، إلا أن مواطن العبَر فيه دائمة الشهود، أو قل: شاهدة تعالي الشهود، بالنظر إلى تحفيز النظر لإبداع المخارج النوعية المشهودة لمختلف مشكلات وإشكالات الإنسان، على الأقل، تحقيق نظير ما تحقق في أزمنة الاجتهاد التفسيري التراثي، فيكون بالتبع موقدًا للاستلهام، وإن كنا اليوم لسنا ملزمين بحصاده، أو قل: برماد الموقد. وفي مقابل هذا القسم، يجد الناظر المنصف الموضوعي أن قسيمه يتضمن جملة اجتهادات إبداعية فائقة، أو قل: متعالية، إن لم تكن من باب العلم، فهي على الأقل من باب المقدمات الأساسية لمنهج نظر علم التفسير في تجلياته وأبعاده المجردة، والتي فعاليتها المنهجية والمعرفية ليست منحصرة، أو قل: متحيزة، في زمن ما من أزمنة تأسيسه، أو قل: بناء نسقه العلمي، ما دام أنه ليس من باب الربط الجدلي المحض. وهذا التقسيم المنهجي في النظر لا ينكره إلا جاهل أو معاند أو مقلّد. 2- إن من أهم ما نراه يعكس جانب النظر التفسيري التراثي التاريخاني، الذي انقضت فعاليته المنهجية والمعرفية المتعالية، وإن لم يفقد مواطن العبَر، بانصرام زمن أو أزمنة أهله المؤسسين له إبداعًا، نذكر ما يأتي: أ- مذهبيات النظر التفسيري بمختلف متجلياتها التي قامت خارج مدار النصّ القرآني. ب- مرويات النظري التفسير بمختلف منقولاتها التي لا أساس لها من الصحة المعتبرة تجريدا. ج- تأسيسات النظر التفسيري المنهجية بمختلف متجلياتها القائمة على عدم مراعاة خصوصية النصّ القرآني. 3- إن من أهم ما نراه يعكس جانب النظر التفسيري العلمي في التراث، أو ما ينزل منزلة مقدمات العلم الضرورية، التي جدواها ما زالت سارية الأثر المتعدي، وإن ولّى زمن أهلها الذين أنشؤوها إبداعًا، نذكر ما يأتي: أ- الاعتماد في النظر التفسيري على قاعدة/منهج كون القرآن يفسر بعضه بعضًا. ب- اعتماد النظر التفسيري التراثي على قاعدة/منهج كون نصوص القرآن محكومة بناظم المناسبة. ج- اعتماد النظر التفسيري التراثي قاعدة/منهج تعدد المداخل التفسيرية لتحقيق أرقى نسبة دلالية ممكنة. ثانيًا: التمييز في الاجتهاد التفسيري التراثي على مستوى ناظم «القطيعة المطلقة»، بين ما هو «تراث ميت»، أو قل: جدلي محايث محض، وما هو «تراث حي»، أو قل: مفارق متعالي صرف؛ سواء تعلق الأمر بما هو منهجي أو معرفي. 1- إن إمعان النظر في نصوص الاجتهاد التفسيري التراثي المأصول، خصوصًا في الأزمنة التأويلية التأسيسية في تاريخ الفكر الإسلامي، يجد أن منه ما هو «حي»، وإن كان تفسيرًا اجتهاديًّا تراثيًّا، أو قل: تاريخيًّا. ومنه أيضًا ما هو «ميت»، وإن كان تفسيرًا، أو قل: تفاعلًا مع كتاب حي مقدّس. ويقصد بـ«الحي» من التراث التفسيري، مجمل الاجتهادات المنهجية والمعرفية التي أبدعها أهل الزمن التأويلي التأسيسي؛ بحيث إن فعاليتها الرمزية الفائقة ما زالت شاهدة تعالي الشهود، وإن كان إبداعها انتمى إلى زمن مضى، ومراعاة هذا المنحى يمكن عدّه أحد أهم الأعمدة التي يقوم عليها ناظم أو مفهوم «الإبداع المتواصل»، ما دام أن روحه، أو قل: نفَسَه الكليّ، هو ناظم أو مبدأ «التراكم». أما التراث «الميت» فيقصد به، مجمل الاجتهادات المنهجية والمعرفية، التي انقضت فعاليتها الرمزية الحيّة بانصرام زمن أهلها المبدعين لها، ومراعاة هذا المنحى يمكن عدّه أحد أهم الأعمدة التي يتأسّس عليها ناظم الاجتهاد الواقعي المتّصل بمختلف إشكالات ومشكلات أزمنة التأويل المتتالية. 2- إن مسلك نظر المتأخّر في ما قدمه المتقدم على مستوى الزمن، القائم على ناظم «القطيعة المطلقة» دون تمييز، يعد مسلكًا بعيدًا عن المنهج العلمي الموضوعي المجرد، أو قل: لا عقلانيًّا؛ سواء تعلق الأمر بالتراث الإنساني عمومًا، أو تعلق الأمر بالتراث الإسلامي وخصوصًا التراث التفسيري فلسفيًّا كان أو غيره، أو تعلق بالحقول التراثية الإسلامية الأخرى، ومما يعكس لا علميته، أو قل: لا عقلانيته، نذكر ما يأتي: أ- يوقع منهج النظر في النصّ القرآني في شراك آفة «بداية البداية»، مما يجعل الاجتهاد لا يتخطى عتبة «بداية البدايات»؛ بحيث يبدأ اللاحق/المتأخر من حيث بدأ السابق/المتقدم على مستوى الزمن: إذا كانت الخميرة الأساسية للإبداع بمختلف نسَبه ومراقيه، تتأسس على مبدأ أو ناظم «التراكم» إيجابًا أو سلبًا، ما دام أن لا إبداع حي شاهد بدون تراكم، فإنّ مسلك ناظم «القطيعة المطلقة»، يفقدها فعل التّجسير المرن، أو قل: السّلس، والذي يفضي بالاجتهاد إلى عدم تجاوز، أو قل: تخطي «بداية البدايات»، مما يجعله رهين اللحظة الثقافية الراهنة، غير متحرّر من قيودها ولا متعال عليها، وهذا الأمر يتنافى مع مسلك الاجتهاد «الإبداعي المتواصل»، الذي يشارك فيه كلّ أهل زمن تأويلي بنسبة ما، بالنظر إلى وتيرة الاجتهاد المتحققة في عموم أزمنة الاجتهاد. قد يقول المجادل بغير وجه حق: إن «القطيعة المطلقة» بقدر ما تفرض أن يكون الاجتهاد غير متوقف، تحارب أيضًا آفة التقليد، الذي يوقع في الاغتراب، أو قل: الغيبوبة الثقافية، أو إن شئت قلت: التقديس. قد تكون دعوى المجادل من أوجه الحقّ، لو كان ناظم الاجتهاد منحصرًا في ضرب واحد، أو لو كان التقليد مذمومًا كلّه، أو منهيًّا عنه دومًا. إن الاجتهاد بحكم قانونه ومراقيه وتعلقاته ليس منحصًرا في ضرب واحد، بل إن أضربه عديدة تفوق الحصر، ومن ذلك تجد: اجتهاد إبداع، واجتهاد ترجيح، واجتهاد انتقاء وتنقية وتوليد ونحو ذلك. وكذلك، فإنّ التقليد ليس كلّه من باب ما هو مذموم، ليس بالمعنى الشرعي فحسب، بل بالمعنى المعرفي أيضًا، إذ قد يكون تقليد منافسة، أو تقليد مماثلة، أو تقليد تشبّه ونحو ذلك. ب- يوقع منهج النظر في النصّ القرآني في آفة مصادرة معايير المطلق المتعالي، مما يجعل الاجتهاد يغرق في هوامش الأصل المتعالي زمن النزول، ولا يهتم بالمطلق أبدًا في تجرده عنه، خصوصًا على المستوى المنهجي أساسًا: إذا كان من أهم أسس الإبداع المعتبر من منظور الفكر الإسلامي الأصيل التّقيد بإرشادات المطلق المتعالي، وليس الاهتمام فقط بـ«القطيعة المطلقة» مع ما هو نسبي متحيز، على الرغم من كل ما يقال عنه، فهو على الأقل مما لا ينكره أحد أو يختلف حوله اثنان. فإن المتعالي إذًا بإطلاق في سياق تاريخ الفكر الإسلامي، هو نصّ القرآن وما ثبت عن الرسول عليه الصلاة والسلام، إذ ذلك أساسًا هو ما يشكل معيارًا وحيدًا للقطيعة أو الأخذ والاستلهام؛ بحيث كلّ من خالف أو ناقض ذلك رد مطلقًا من أي جهة صدر وفي أي زمن انبثق. والمنهج السليم يقتضي أن يكون الاجتهاد منصبًّا على تحديد  المعايير الكبرى المؤصلة في ضوء القرآن والسنة الصحيحة، وإلا أفضى الأمر إلى «الاستبدال»؛ استبدال الفرع بالأصل، ذلك أن الإلتزام المطلق لا يتعلق إلا بهما دون سواهما. إلا أن المعايير التي يتم في ضوئها أخذ أو رد الاجتهاد الإنساني ما زالت غير محددة أو معلومة، أو قل: ما زالت مجهولة أو مغيبة. لذلك، فإن الاجتهاد الإسلامي في هذه المرحلة بالذات يتعين أن يتعلق بهذا الموضوع أساسًا، وإلا دخلنا في فوضى ومتاهة منهجية لا حدّ لها. ج- يوقع منهج النظر في النصّ القرآني وعموم الفكر الإسلامي في شراك «آفة التغريب»، أو قل: «الغربنة»؛ بحيث يقطع مع تراث سياقه الثقافي، ويصل في المقابل مع فكر اجتهادي آخر، يخالفه في السياق العام على الأقل: ثبت عند كلّ الأمم والشعوب بمختلف تجاربها أن إثبات الوجود الرمزي والاعتباري في عالم متحول، لا يتحقق إلا من خلال الاستناد إلى تراثها الثقافي والحضاري، على الرغم من كلّ ما قيل فيه أو قيل عنه. إذ بفضل «التجسير» الذي تحدثه اجتهادات الأجيال اللاحقة، تلهب الوجود والخيال الإبداعي بأي صورة من صوره المعتبرة. أما القطع مع تراث الذات، التراث التفسيري الإسلامي، الذي ما زالت آثاره شاهدة على قوة فعاليته ورمزيته الخلّاقة، بشهادة المبغض قبل المحب؛ فإن من شأن القطع المطلق أن يغرّب الذات الجماعية قبل الفردية عن تاريخ وجود تراثها الثقافي تحديدًا، فتصير بالتبع أمَةً بالاختيار لمن قلدته أو وصلته بإطلاق، مع اختلافه معها في السياق الثقافي وغيره. والحق أن لا أحد من أولي بقية من الناس يقول بذلك، إلا من أشرب في قلبه تقليد المخالفين والأغيار، الذي هو ديدن الكثير من أهل الدراسات الإسلامية المعاصرة بمختلف تخصصاتهم العلمية والمعرفية. بناء على ما تقدم يظهر لك أن اتباع منهج «القطيعة المطلقة» مع عموم التراث الإنساني، والتراث التفسيري الإسلامي خصوصًا، لا يستقيم ألبتة بأي منظار نظرت، وبأي مقصد استرشدت. لذلك، عملنا على الاجتهاد في سبيل تأسيس ما سميناه بـ«القطيعة الواعية»، التي تقوم أساسًا على الدراسة الموضوعية الداخلية المنصفة، لا على تسويغ الأحكام القبلية المحمّلة، إذ من شأن ذلك أن يجعل منهج النظر في التراث قائمًا على الأخذ أو الرفض الانتقائي المذهبي، لا على منهج النظر العلمي الموضوعي الكلي، القائم على التحقيق والتحقق.

ضيف الحوار :

محمد كنفودي

باحث مغربي حاصلٌ على إجازة في الدراسات الإسلامية، درجة الماجستير في فقه المهجر أصوله وقضاياه وتطبيقاته المعاصرة، وله عدد من المؤلفات العلمية والمقالات المنشورة في مجلات ودوريات ومراكز بحثية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))