كتاب (القرآن والتفسير العصري)
للدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)
عرض وتقويم
تمهيد:
تبارَى العلماء في خدمة كتاب الله، وانبَرى المخلصون للذّودِ عنه في كلّ زمان، واحتلّ تفسير القرآن الكريم مكانةً كُبرى في نفوس المسلمين، فامتلأت المكتبة العربية والإسلامية بالعديد من المؤلَّفات الخاصّة بهذا العِلْم الجليل. وفي هذه المقالة نتناول بالعرض والتقويم كتاب (القرآن والتفسير العصري) للدكتورة عائشة عبد الرحمن المعروفة ببنت الشاطئ[1]؛ إِذْ يلقي الضوء على أحد أهم السجالات الفكرية التي خاضتها المؤلِّفة للدفاع عن القرآن الكريم ضد ما يُسَمَّى بالتفسير العصري وما يحمله من تأويلات تخالف المنهج النبوي الشريف وإجماع علماء الأمّة المجتهدين. فنعرِّف بهذا الكتاب، ونسلِّط الضوء على منهجه ومحتوياته، كما نعرض لأبرز مزاياه والملاحظات حوله[2].
القسم الأول: كتاب (القرآن والتفسير العصري)؛ عرض وبيان:
السبب الباعث على تصنيف الكتاب:
كتبَت الدكتورة بنت الشاطئ مجموعة من المقالات للردّ على التفسير العصري المنسوب للدكتور مصطفى محمود[3]، ثم أرتأت بعد ذلك أن تجمع هذه الردود في كتاب واحد بناء على طلب بعض دُور النشر. قالت الكاتبة: «لولا أنني آخذ بمبدأ (القضايا لا الأشخاص) لسرّني حقًّا أن أذكر أسماء الذين تفضّلوا وكتبوا إليَّ، وأن أنقل هنا نصّ الخطاب الذي تلقّته (إدارة النشر بمؤسسة الأهرام) من دار النشر والتوزيع في الخرطوم، ترجو فيه طبع مقالاتي في التفسير العصري... وقد كان اعتزازي بحُسن رأيهم فيَّ، وتقديري لموقفهم معي، مما جعلني أعجل بنشر هذا العرض الموجز للقضية قبل استكمالها بما يشغلني الآن من دراسة للقاديانية والتفسير العصري تكشف عن مسار هذا التيار الجائح الذي يستبيح تأويل كلمات الله بغير علمٍ ولا هُدى»[4].
محتويات الكتاب:
بدأت المؤلِّفة كتابها بمدخل حول خطورة فهم القرآن الكريم بعيدًا عن هَدي النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة الكرام، وكيف أنّ أعداء الإسلام حين فشلوا في التشكيك في نصّ القرآن دأبوا على الخوض في تأويلاته وحَمْلِها على معانٍ بعيدة تجافي جوهر الإسلام وعقيدته، ثم ختمَت مقدّمتها بنقدٍ لاذع للتفسير العصري المنسوب للدكتور مصطفى محمود، ومن ثَمَّ عقدت العزم على النظر فيه وتقويمه. وقد قسمَت الكاتبةُ -رحمها الله- كتابها إلى ستة فصول، كالآتي:
- الفصل الأول: هذا القرآن:
تحدّثَت فيه عن موثوقيةِ النصّ القرآني وجمعِ القرآن الكريم ونشأةِ علم القراءات ودخولِ الإسرائيليات إلى علم التفسير، وتوقّفَت عند الأخير فوصفته بالمأساة، وقالت: «وجذور المأساة غائرة بعيدة، لا يخطئ التاريخ أن يلمح بذرتها الخبيثة فيما أقحم اليهود على التفسير القرآني من عناصر إسرائيلية»[5]. ثم تحدّثَت عن أهمية العربية كشرط من شروط الاجتهاد في التفسير، واقتصرَت جانب الإعجاز في القرآن الكريم على الشقّ البياني معتبرةً أن التفسير العلمي الحديث للقرآن وما شابهه ما هو إلا مخدِّر للعوامّ نشَأ مع الغزو الاستعماري نتيجة صدمة التفوّق المادي للحضارة الغربية[6].
- الفصل الثاني: القرآن الكريم بين الفهم والتفسير:
هنا بدأت فعليًّا الردّ على كتاب (القرآن، محاولة لفهم عصري) للدكتور مصطفى محمود، مؤكدةً على ضرورة الالتزام بالتخصّص، وأنه لا يصحّ لأحد أن يتصدّى لتفسير القرآن دون التلقّي من الشيوخ، متهمةً الأخير بعدد من الأخطاء التي تنافي أبسط قواعد أصول التفسير، منها: (الاقتصار على المعنى المعجمي للكلمات القرآنية، بَتْر الجمل القرآنية والآيات عن سياقها، ووصف الله -عز وجل- بما لم يصف به نفسه عز وجل، والاستشهاد بالإسرائيليات المدسوسة والكتاب المقدّس)، مستشهدة خلال ذلك بفقرات من الكتاب محلّ النقد.
- الفصل الثالث: لكيلا تضلّ المقاييس!
وقد خصّصَت هذا الفصل للردّ على كلّ مَن دافَع عن كتاب الدكتور مصطفى محمود ومنهجه، وعلى رأسهم الأستاذ الدكتور عثمان أمين[7] الذي كتب مقالة بعنوان: (الاجتهاد في القرآن واجب على كلّ مفكِّر)، وناقلةً عددًا من أقوال العلماء في النهي عن التفسير بالرأي، وأن تفسير القرآن ليس مباحًا لكلّ الناس.
- الفصل الرابع: دفاعًا عن منطق عصرنا وكرامة عقولنا:
خصّصَته للردّ على اتهام أحد الصحفيين بأنها ما تطوّعَت للردّ على الدكتور مصطفى محمود إلا لخشيتها من منافسته لها بعد القبول الذي حظيت به كتاباته بين الناس، عازمةً على الثبات على موقفها، ومعتبرة أن التراجع عنه ما هو إلا نوع من الاستهانة بالعقلية العلمية والمنطق العصري.
- الفصل الخامس: بيت العنكبوت!
ردّت فيه على بعض مسائل التفسير العصري، أمثال: (صياغة نظرية دارون في القرآن، وفلسفة العدد، وبيولوجيا الحيوان -بيت العنكبوت-، ومسألة يأجوج ومأجوج).
- الفصل السادس: بين الدراسة القرآنية والتفسير العصري:
عقدَت في هذا الفصل مقارنة بين كتابها (مقال في الإنسان؛ دراسة قرآنية) الذي نُشِرَ سنة 1969م، وبين كتاب الدكتور مصطفى محمود محلّ النقد، متهمةً إياه بالتدليس والاقتباس من كتابها بجهالة. وقد قسمَت هذا الفصل إلى قسمين:
الأول: في المنهج.
والثاني: في الموضوع: وجعلَت تحته أربعة عناصر، كالآتي: (الغيب، حرية الإنسان، الوجود والعدم، وجدل في البعث).
ثم ختمَت الكتاب بفصل تحت اسم: (اللهم فاشهد)، أكّدت فيه على موقفها المناوئ للتفسير العصري.
منهج الكتاب:
باستقراء الكتاب، أرى أنّ الكاتبة قد اعتمدَت في كتابها بشكلٍ أساسي على المنهج النقدي وذلك للردّ على تأويلات وادّعاءات التفسير العصري، كما استعانت أيضًا بالمنهج التاريخي في بعض الموضوعات؛ كإثبات موثوقية النصّ القرآني.
القسم الثاني: كتاب (القرآن والتفسير العصري)؛ نقد وتقويم:
أولًا: المزايا[8]:
1- عرض القضايا الضابطة لأُسُس النقد والتقويم:
يُعتبر الولوج لنقد القضايا والمواقف دون بيان الأُسس التي سينطلق منها الناقد بمثابة منقصة وعيب منهجي، وإنّ من مزايا كتاب (القرآن والتفسير العصري) حرص المؤلِّفة على تقديم توطئة منهجية تشير فيها لقضايا ضابطة لاشتغالها النقدي مما يمهّد للقرّاء منهج السجال الفكري الدائر بينها وبين الخصم.
ويمكننا أن نلاحظ ذلك من خلال مقدّمة الكتاب والفصل الأول؛ إِذْ حرصَت الكاتبة في المقدّمة على بيان المنطلقات التي دعتها إلى خوض هذا الجدال؛ إِذْ أشارت إلى خطر عرض القرآن على أبناء الأمّة ككتاب في الطب والفلَك والبيولوجيا وغيرها؛ إِذْ يعدّ ذلك من وجهة نظرها أحد أخطر المزالق التي تبعد أبناء هذا الزمان عن فهم القرآن بمنهج النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلف الأمّة؛ تقول في ضوء تبرير منطلقات نقدها: «العلم فريضة والشهادة أمانة، وكلمة الحقّ أمانة وتكليف، وفي مواجهة التيار الجائح، أُؤَدِّي فريضة العلم وأمانة الشهادة؛ لكيلا أبوء بلعنة إثمِ القلب»[9].
وأمّا في الفصل الأول، وعنوانه: (هذا القرآن)، فقد أكّدَت على مرجعية القرآن الراسخة لدَى أمّة الإسلام، وأهمية فهمه وفق منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة الكرام، ثم تحدّثَت باختصار عن موثوقية النصّ القرآني ونشأة علم التفسير وتطوّره، وما تبع ذلك في العصر الحديث من هجمات أعداء الإسلام الشرسة على القرآن ولغته؛ لتختم هذه التوطئة ببسط قضية الكتاب، وتقول: «إنّ تحديات عصرنا، قومية وحضارية، هي التي تضعنا أمام ما يروج فينا من تأويلات عصرية للقرآن، لنحدّد موقف الدين والعلم من هذه التأويلات... وبقدر ما تقسو هذه التحديات، تشتد حاجتنا إلى تأمين هذا الموقع الفكري الخَطِر، من حيث لا نستطيع أن نسير مع حركة الزمن ودفع التقدّم وحتمية التطور، إذا ظلّ تأويل كتابنا الأكبر مباحًا لكلّ ذي هوى أو رأي، يلوي نصوصَه ليًّا لكي يلبّي حاجةً في نفسه، ومن حيث لا يُتَصوّر، وموجة الإلحاد في مدّها الجامح، والصراع المذهبي في ذروة احتدامه، أن يُترَك تفسير كتاب الإسلام بغير ضوابط مقرّرة ملتزمة، يعرف بها إنسان العصر كلمة الدّين في ختام رسالاته، ويطمئنّ قلبه وعقله وضميره إلى حقيقة هذا الدّين وقيمة عطائه»[10].
2- عمق النقد وتعدّد طرائقه:
يلاحظ الناظر في كتاب (القرآن والتفسير العصري) الحسّ النقدي العالي لدى الدكتورة بنت الشاطئ؛ إذ اعتمدت على منهجيات منطقية كثيرة للردّ على التفسير العصري، من أهمها:
أ- منهجية إبراز التناقض لدى الخصم:
مثال: عابت بنت الشاطئ على الدكتور مصطفى محمود إنكاره على التأويلات البهائية بينما هو نفسه يذهب في التأويلات الباطنية كلّ مذهب! قالت المؤلِّفة: «فيقول مثلًا في إنكار تأويل البهائية... على حين يُوغِل بنا في التأويل إلى أبعد مما ذهبَت إليه البهائية والباطنية. لقد أنكر على صاحب البهائية مثلًا أن يؤوِّل غنم موسى بشَعْبِه؛ في الآية ﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي﴾ [طه: 18]، فهل يكون تأويل الغنم بالشَّعْب أبعد شططًا من تأويله للنعلَيْن بالنفس والجسد في آية طه، خطابًا لموسى: ﴿فَاخْلَعْ نَعلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى﴾ [طه: 12]؟!»[11].
ب- إبراز الاقتطاع من السياق وانفصال الدليل عن المدلول:
مثال: بيانها أن الدكتور مصطفى محمود قد استدلّ على تحرير النفس من الشهوات بآيتين لا صِلَة لهما بالسياق المطروح، وهما الآيتان: (54) من سورة البقرة: ﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ﴾ [البقرة: 54]. والآية (111) من سورة التوبة: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾ [التوبة: 111]، حيث ذكرَت أنّ سياق الآية الأُولى في وعدِ الله للمجاهدين، والآية الأخرى في زجر عبَدَة العجل مِن بني إسرائيل، ثم علّقَت بقولها: «ولا يمكن أن يجتمع المؤمنون المجاهدون والكافرون الظالمون في سياق واحد إلا عند مَن لا يفقهون»[12].
3- إشراك القارئ في السجال الفكري:
يعدّ العصف الذهني أحد أهم الطرق التفاعلية لتنبيه القارئ وزيادة قدرته الاستيعابية، وقد نجحَت المؤلِّفة في تحقيق هذا الغرض بإلقاء الأسئلة المفتوحة على القرّاء ودعوتهم للتأمُّل، فتمَكّنَت من إشراك القارئ في السجال الفكري الدائر بينها وبين الخصم. ومثاله: دعوتها للقرّاء بتدبّر الآيات من سورة (ق) التي استشهد بها الدكتور مصطفى محمود للقَرِين الملائكي، لتطرح بعدها السؤال؛ «هل في هذا السياق، شهادة من قرينٍ ملائكي لصاحبه الذي لازمَه وألهمه الخير؟»[13].
ثانيًا: الملاحظات:
1- عدم مراعاة تسلسل الأفكار في ترتيب فصول الكتاب:
لم يأتِ ترتيب فصول الكتاب على الوجه الأمثل؛ ففي خضمّ نقد الكاتبة لتأويلات الخصم قطعَت حبل أفكار القرّاء بتفرعها للردّ على اتهامات الصحفيين والمثقفين لشخصها ودوافعها، وذلك في الفصلين الثالث والرابع، ثم عادَت مرة أخرى إلى قضية الكتاب المنشودة في الفصل الخامس وما بقي من فصول الكتاب! وكان الأفضل أن تضع هذين الفصلين في نهاية العمل بعد الانتهاء من الردّ على الكتاب محلّ النقد؛ وذلك للحفاظ على تسلسل الأفكار.
2- إشكال العزو:
وقعَت الدكتورة بنت الشاطئ في إشكالية كبيرة حين أوردَت كلامًا للدكتور مصطفى محمود يحمل اتهامًا خطيرًا له؛ إِذْ نسبَت إليه قوله في الآية: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ [النور: 30] أن: «مجرّد إرسال النظر لا ضرر منه، ولكن الضرر فيما يجري في القلب والعقل نتيجة إمعان النظر الخبيث»[14]. وهو اتهام بنفي حرمة إطلاق البصر! وقد وضعَت بجانب هذه الفقرة الخطيرة وما قبلها رقم (86) دون تحديد للمصدر الذي قال فيه هذا الكلام[15].
وبالاطلاع على كتاب (القرآن، محاولة لفهم عصري) للدكتور مصطفى محمود لم أجد أيّ أثر لهاتين الفقرتين، بل لاحظتُ العكس مما نُسِبَ إليه؛ إِذْ يقول -رحمه الله- في ضرورة الحفاظ على غضّ البصر: «وحكمة الآية القرآنية واضحة في مثل هذا النوع من النظر، والذوق السليم ينفر بالفطرة ويعفُّ عن مثلِ هذا التحديق لأنه ضرر؛ ولهذا أمَرَ القرآن المرأة المؤمنة بأن تُدنِي عليها جلبابها ابتعادًا عن مزالق الإثارة والاستثارة... ومن هنا كان لا بدّ مِن غضِّ البصر تفاديًا للضرر... وإشفاقًا من العواقب ووقايةً مِن ضعفنا الطبيعي المركَّب في أجسادنا»[16].
وقد امتدّ هذا الإشكال إلى الدراسات التي صدرَت بعد مؤلَّف بنت الشاطئ، ففي كتاب (أسباب الخطأ في التفسير) للدكتور محمود طاهر الصادر عن دار ابن الجوزي تم الاستشهاد بنفس الفقرتين -مع بعض الزيادات-[17]، وقد نسبهما الكاتب إلى الطبعة الثانية من الكتاب محلّ النقد، وبالنظر في الطبعة المذكورة وفي الصفحات التي أحال إليها الباحث لم نجد ما استشهد به.
3- الغلط في مهاجمة توظيف الإسرائيليات في التفسير:
فقد رفضَت الدكتورة بنت الشاطئ منهج الإسرائيليات في التفسير بالكلية، وكان لا بدّ لها أن تتناول هذا الموضوع بمزيد توضيح للقرّاء بدلًا من رفضِه بهذا الشكل الجائر ووصفِه بالمأساة المتعمِّقة الجذور دون عرض تفاصيله؛ إِذْ هي بذلك تخالف طائفةً من جمهور علماء التفسير والعديد من الكتابات التي لم تتخذ هذا الموقف الحدّي في النظر لحضور الإسرائيليات في التفسير.
ومؤخرًا قد حرر الباحثُ خليل محمود اليماني تلك المسألة بتكامل في كتابه: (توظيف الإسرائيليات في التفسير)، وانتهى فيها لنتيجة معيَّنة تُبيِّن وجاهة توظيف الإسرائيليات في التفسير وغلط منطلقات النظر الناقد لهذا التوظيف؛ فتواطُؤ الأئمة المتقدِّمين على توظيف المرويات الإسرائيلية في التفسير يعدّ مصدر تشغيب على مَن يرفض الإسرائيليات بإطلاق، كما أنّ توظيف المرويات الإسرائيلية قد لعب دورًا مهمًّا في التفسير، بل وضروريًّا أحيانًّا، وبخاصّة فيما يتعلق بفكّ دلالات بعض الآيات الخاصّة بقصص بني إسرائيل والأُمَم الغابرة. يقول الباحث في ضوء نقده لنفاة وجود أهمية لتوظيف الإسرائيليات في التفسير: «ولـمّا كان من المقرّر أنّ من يَدّعِي ثبوت أمرٍ ما يكفيه نصّ واحد لثبوت ما ادّعاه، وأنّ مَن ينفي أمرًا فعليه سَبْر كلّ أدلة الإثبات ونفيها جميعًا لتتحقّق له دعواه؛ فإننا ومِن خلال هذه النتيجة البحثية يمكننا الطعن بذلك واستشكال النقد الذي قام بنفي أهميتها -أي المرويات الإسرائيلية- بصورة مطلقة وادّعَى عكس ذلك وأنها بلا أيّ فائدة في التفسير، وكذلك سائر التحليلات التي تُطرَح في تفسير أسباب اللجوء لهذه المرويات في التفسير والتي تبتعد تمامًا عن طرح أيّ مسوِّغات علمية في لجوء المفسِّرين لهذه المرويات تتعلّق بالتفسير ذاته وأهميتها في تعاطيه»[18].
4- التعميم الجائر في رفض الأدلة العلمية:
يُعتبر رفض عموم الأدلة العلمية في القرآن الكريم جحدًا لأحد دلائل صدق القرآن في العصر الحديث؛ وكم مِن أناسٍ قد أسلموا بسبب دليل علمي أو تاريخي وجدوه في القرآن الكريم! على رأسهم الدكتور الفرنسي موريس بوكاي صاحب الكتاب الشهير: (القرآن والتوراة والإنجيل والعلم)، والدكتور آرثر أليسون، والدكتور جاري ميلر وغيرهم... بل هناك من المتخصصين ممن دافع عن طائفة من تفسيرات الدكتور مصطفى محمود العلمية ضد منتقديه؛ كالدكتورة هند شلبي[19] في كتابها: (التفسير العلمي للقرآن الكريم بين النظريات والتطبيق)[20]، فقد دافعَت عن تفسيراته ضدّ نقد الدكتور أحمد عاطف عليه[21]. وقد ختمَت كتابها بقولها: «كان على العلم أن يلتحق ضرورةً برَكْبِ الوحي، ولا يَعنِي ذلك أن العلماء سيجدون نظرياتهم وافتراضاتهم ومسلَّماتهم مندسَّة في الآيات، فهذا لا يقول به عاقل؛ لأن طريق الوحي في تقديم الحقائق غير طريق العلم، لكن الذي أظهره البحث وبيّنَتْه المقارنة أن الحقائق التي قضى العلم زمنًا طويلًا للكشف عنها كانت حاضرة في القرآن لتشهد أنه من عند الله... وهكذا فإنه لا يمكن أن نعتبر التفسير العلمي للقرآن مجرّد اتجاهٍ عرَفه التفسير كما عرَف غيره من الاتجاهات الفكرية الأخرى، بل نراه حقيقة ذاتية نابعة من القرآن لِتُذكِّر في كلّ آية منه بأنه المعجزة التي لن يتأتَّى لأحد الإتيان بمثلها: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾»[22].
فكان ينبغي على الدكتورة بنت الشاطئ ألّا يَحملها ما وقع في التفسير العصري من بعضِ الشطحات على رفض مثل هذه الموضوعات بالكلية.
5- عدم استيعاب دوافع الخصم في بعض المواضع:
اتهمَت المؤلِّفة الدكتور مصطفى محمود بعدم درايته بعلوم العربية ولغة القرآن[23]، وهو ما لا نستطيع أن نسلِّم به؛ فإنّ المذكور كاتِبٌ كبير وأديب معروف ذو ثقافة واسعة ويشهد له مؤلَّفاته العديدة؛ وإنما يرجع هذا الاتهام من المؤلِّفة إلى عدم استيعاب دوافع الخصم والأسباب التي أدّت به إلى انتهاج هذا المذهب في التفسير، ففي حين تدّعي الدكتورة أنّ تفسيرَه ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ﴾ بالنفس والجسد راجعٌ إلى عدم الدراية باللغة، يقرّ الدكتور محمود بنفسه في كتابه أنّما حمله عن صرف اللفظ عن معناه إلا النزعة الصوفية، يقول: «يفسِّر بعضُ المتصوِّفة كلامَ الله لموسى في القرآن أنّ المقصود بالنعلَين هما النفس والجسد... وقد يعترض معترض قائلًا: وما الضرورة لصرف اللفظَين عن معناهما الظاهر؟ والواقع أن هناك ضرورة؛ فالحضرة الربانية لا يكفي لدخولها خلع النعلَين... وإنما التجرّد الكامل هو شرطها دائمًا وهو أقلّ ما يليق بالحضرة الربانية»[24].
6- اتهام بلا دليل مقنع:
اتهمَت الدكتورة بنت الشاطئ الخصم في الفصل السادس من كتابها بالاقتباس بجهالة -بمعنى أصحّ: السرقة- مِن أحد كتبها، إلا أنّ هذا الاتهام لم يُشفَع بدليل سوى أنها دعَت القارئ إلى المقارنة بين الفقرات زاعمةً أنّ الكاتب قد أخذ فكرتها وغيَّرها بألفاظ أخرى، إلا أنّ هذه المقارنة التي دعَت إليها الدكتورة لم تكن في صفِّها؛ أولًا: لأن هناك الآلاف من الكتب التي تخدم علوم القرآن ونفس الموضوعات وتحت نفس المسمّيات، إلا أننا لم نجد أحدًا من العلماء يتهم الآخر بالسرقة منه! بل العلم بناء، وكلٌّ يبني على ما سبق. ثانيًا: بتأمُّل الفقرات مثار الاتهام بالتدليس والسرقة نجد أنها فقرات عن أحداث تاريخية أو أبيات شعرية وهي ليست حكرًا على أحد، بل الاستشهاد بها مفتوح للجميع.
وعلى افتراض صحة ما ادّعَتْه الدكتورة في حقّ الخصم، فإنّ الأمر لا يعدو إشكال في العزو -إن كان هناك حقًّا ثمة اقتباس-.
الخاتمة:
استعرَضْنا في هذه المقالة بالعرض والتقويم كتاب (القرآن والتفسير العصري) للدكتورة بنت الشاطئ، فبينّا محتويات الكتاب وتعرّضْنا لطرف من أبرز مزاياه والملاحظات حوله، وقد حاولَت المؤلِّفة من خلال كتابها الدفاع عن قضية التخصّص، وأكّدَت على أنّ أيّ فهمٍ للقرآن الكريم بعيدًا عن منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة لهو فهمٌ قد جانبه الهُدى والصواب، وذلك عبر نقدها لكتاب (القرآن، محاولة لفهم عصري) لمؤلِّفه الدكتور مصطفى محمود، فرحمة الله على كلٍّ منهما، وجزاهما خيرًا على ما قدَّماه لأمة الإسلام، وأعان اللهُ بالتوفيق والسداد كلّ من سَعى لخدمة كتابه الكريم، والحمد لله ربّ العالمين.
[1] عائشة عبد الرحمن -المعروفة ببنت الشاطئ- (1913- 1998): أستاذة جامعية وباحثة ومفكّرة، وُلدت في مدينة دمياط بشمال دلتا مصر عام 1913م لأسرة مليئة بعلماء الأزهر وروّاده، تخرجَتْ في كلية الآداب قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة عام 1939م، ونالَت درجة الماجستير عام 1941م، ثم حصلت على الدكتوراه عام 1950م والتي ناقشها فيها عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، عملَت كأستاذٍ للتفسير والدراسات العليا في كلية الشريعة بجامعة القرويين في المغرب، وأستاذ كرسي للغة العربية وآدابها بجامعة عين شمس، وأستاذ زائر في العديد من الجامعات العربية؛ كجامعة أم درمان، وجامعة الإمارات، وجامعة بيروت، وتزوّجَت من أستاذها (أمين الخولي) والذي يعدُّ أهمّ أقطاب الثقافة في مصر وقتئذٍ. من أبرز مؤلفاتها: (التفسير البياني للقرآن الكريم، القرآن وقضايا الإنسان، القرآن والتفسير العصري، بنات النبي، ونساء النبي).
[2] أتقدّم بخالص شكري للكاتب الزميل م. ياسر عبده، ولمكتبة النشء بقطاع المكتبات المتخصّصة بمكتبة الإسكندرية؛ لحرصهم على تسهيل مهمّتي البحثية واطلاعي على أحد أهم وأقدم النُّسَخ الورقية لكتب الدكتور مصطفى محمود والتي لم تتوفر على شبكة الإنترنت.
[3] مصطفى محمود (1921- 2009): طبيب وأديب وفيلسوف مصري، وُلد عام 1921م في مدينة شبين الكوم بمحافظة المنوفية، وتخرج في كلية الطب جامعة القاهرة عام 1953م، وأحبّ الأدب العربي، فكان كثيرًا ما ينشر في الصحف والمجلات بعضًا من مقالاته وتأمّلاته وقصصه القصيرة، مرّ بمرحلة من الشك أسلمته في النهاية إلى اليقين، وكوّن فلسفته الخاصّة برؤية تجمعُ بين التصوّف والعلم الحديث، فقدَّم أحد أشهر البرامج التي ذاع صِيتها في الوطن العربي (العلم والإيمان) لأعوامٍ عديدة. من أبرز مؤلفاته: (رحلتي من الشكّ إلى الإيمان، الإسلام في خندق، الوجود والعدم، العنكبوت، سقوط اليسار، على حافة الانتحار).
[4] القرآن والتفسير العصري، بنت الشاطئ، دار المعارف، مصر، الطبعة الثالثة، 1999م، ص173- 174.
[5] القرآن والتفسير العصري، ص25.
[6] انظر: القرآن والتفسير العصري، ص38.
[7] عثمان أمين (1905- 1978): أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، وهو أحد روّاد المدرسة الفلسفية الحديثة التي أنشأها الشيخ مصطفي عبد الرازق، ومعروف بالاتجاه نحو الروحية أو الذاتية من خلال فلسفته المسمّاة (الجوانية)، وُلد في إحدى قرى محافظة الجيزة بمصر، بعد حصوله على الليسانس من جامعة القاهرة سنة 1930م سافر إلى باريس في بعثة دراسية لدراسة الدكتوراه بجامعة السربون، وقضى هناك نحو سبع سنوات، وتوّج عثمان أمين جهده العلمي في هذه الفترة بحصوله على الدكتوراه برسالة نفيسة عن الإمام محمد عبده -والذي تأثّر بمذهبه تأثّرًا كبيرًا-. من أبرز مؤلفاته وترجماته: (رائد الفكر المصري محمد عبده، شخصيات ومذاهب إسلامية، روّاد الوعي الإنساني في الشرق الإسلامي، "دفاع عن العلم" لألبير ماييه، "مبادئ الفلسفة" لديكارت).
[8] يعتبر كتاب (القرآن والتفسير العصري) مثالًا حيًّا على تنافح الأفكار وتبادل الآراء في فترة مهمّة من تاريخ الثقافة الحديث؛ إِذْ أتاحت دار المعارف بمصر الفرصة لكلٍّ من الناقِد والمنتَقَد (أقصد الدكتورة بنت الشاطئ والدكتور مصطفى محمود على الترتيب) بنشر كتابه تحت رايتها رغم انتماء كلٍّ منهما إلى مدارس مختلفة.
[9] القرآن والتفسير العصري، ص9.
[10] القرآن والتفسير العصري، ص41 (باختصار).
[11] القرآن والتفسير العصري، ص111- 112.
[12] القرآن والتفسير العصري، ص55.
[13] انظر: القرآن والتفسير العصري، ص132.
[14] انظر: القرآن والتفسير العصري، ص57.
[15] يحتمل أن تكون بنت الشاطئ قد نقلَت هذا الكلام من طبعةٍ ما متقدِّمة للكتاب أو من كتاب آخر للدكتور مصطفى محمود، أو من مقالة معيَّنة في مجلة؛ لصعوبة تصوُّر أن تُورِدَ هي كلامًا ليس للشخصية محلّ النقد، لكن حتى بفرض صحة هذا الاحتمال تبقى حقيقة إشكال العزو قائمة في صنيعها كما بينّا، وحقيقة أن الدكتور مصطفى محمود قد تراجع عن مثل هذا الكلام فيما بعد.
[16] القرآن محاولة لفهم عصري، مصطفى محمود، دار المعارف، مصر، الطبعة الثامنة، 1999م، ص102.
[17] انظر: أسباب الخطأ في التفسير، محمود طاهر، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1425هـ، ص1020، 1121.
[18] توظيف الإسرائيليات في التفسير، خليل محمود اليماني، دار تفسير للنشر والتوزيع، الرياض- المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1443هـ= 2022م، ص94.
[19] هند شلبي: أستاذ التفسير بجامعة الزيتونة- تونس، تنحدر من أسرة زيتونية عريقة، فوالدها الشيخ أحمد شلبي أحد مدرِّسي الزيتونة، حفظَت القرآن الكريم في سنٍّ مبكِّرة، ثم التحقَت بجامعة الزيتونة وتدرَّجَت في طلب العلم حتى حصلَت على شهادة الدكتوراه؛ ليتمّ تعيينها أستاذة وباحثة في علوم القرآن عام 1981م في الجامعة ذاتها إلى أن تقاعَدَت، تُوفّيت في 24 يونيو عام 2021، متأثرة بإصابتها بفيروس كورونا. من أهم مؤلفاتها: (التصاريف، والقراءات بإفريقية من الفتح إلى منتصف القرن الخامس، والتفسير العلمي للقرآن الكريم).
[20] انظر: التفسير العلمي للقرآن الكريم بين النظريات والتطبيق، هند شلبي، مطبعة تونس قرطاج، الطبعة الأولى، 1985م، ص94، 108، 120.
[21] خصّصَت الدكتورة هند شلبي بعض أجزاء من كتابها للردّ على كتاب (نقد الفهم العصري للقرآن) للدكتور أحمد عاطف، والدفاع عن منهج الدكتور مصطفى محمود.
[22] القرآن والتفسير العصري، ص163- 164.
[23] انظر: القرآن والتفسير العصري، ص52.
[24] القرآن؛ محاولة لفهم عصري، ص131.