الاختلاف في تسمية تفسير البقاعي
عرض وتحرير
مقدمة:
الحمد لله ربّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلـى الله عليه وسلّم وعلى آله وصحبه أجمعين.
فلا يخفى أنّ أُولى مراحل تحقيق كتابٍ ما: تحقيق عنوانه، وإثبات الاسم الذي سمَّاه به مصنِّفه. وفي هذا يقول العلّامة عبد السلام هارون: «الجهود التي تُبذل في كلّ مخطوط يجب أن تتناول البحث في الزوايا التالية»، ثم ذكر أوّلها فقال: «تحقيق عنوان الكتاب»[1].
وغالبًا ما يكون عنوان الكتاب مُفصحًا عن مضمونه والعلم الذي يبحث فيه، بله لم يُسَمَّ عنوان الكتاب بذلك إلا «لأنه أبرز ما فيه وأظهره»[2].
ولمعرفة عنوان كتابٍ ما طرقٌ ووسائلُ ذكرها أهل العلم، منها: «قراءة مقدمة الكتاب؛ إِذْ قد يصرِّح المصنِّف باسم الكتاب، فإن لم يصرِّح المصنِّف باسم الكتاب في أوّله يُنظر في آخر الكتاب لعلّه يصرِّح باسمه»[3].
وتحقيق عنوان الكتاب ليس «بالأمر الهيِّن»[4]؛ لذلك يقع اختلاف بين أهل العلم في تحديد العنوان الدقيق لمصنَّفٍ ما، ولا سيما إن لم يَنُصّ المصنِّف عليه صراحة. ومن أمثلة الكتب التي وقع فيها خلاف في تحديد عنوانها[5]: «مواقع العلوم في مواقع النجوم»[6]، و«التحبير في علوم التفسير»[7].
والاختلاف في تحديد عنوان الكتاب له أسباب ودوافع كثيرة، ليس هذا محلّ بيانها، وله أثر في المسائل العلمية، سواء تلك المتعلّقة بموضوع الكتاب نفسه أو بما له صِلْة به. ومن مُثُلِ ما له أثر في المسائل العلمية: أنّ كثيرًا ممن تناول تأريخ «علوم القرآن» ذكروا أن من أوائل المصنَّفات التي اشتمل عنوانها على مصطلح (علوم القرآن) كتاب «الاستغناء في علوم القرآن» للأدفوي[8]. بَيْد أن بعض أهل العلم[9] ذكر أن العنوان الصحيح لتفسير الأدفوي هو «الاستغناء» فحسب، وأن ما بعده إنما هو وصف للكتاب إمَّا من قِبَل مصنِّفه أو المترجِمين.
ومن الكتب التي وقع خلاف في تحديد عنوانها: تفسير البقاعي. وهذه المقالة تهدف إلى عرض هذا الخلاف وتحريره.
من المعلوم أن البقاعي قد سمَّى كتابه التفسير بأكثر من اسم[10]، ذكر منها في مقدمته ثلاثة أسماء، فقال: «وسميته: (نَظْم الدرر من[11] تناسب الآيات والسور)، ويناسب أن يسمى: (فتح الرحمن في تناسب أجزاء القرآن)، وأنسب الأسماء له: (ترجمان القرآن ومبدي مناسبات الفرقان)»[12]. ومع أنه ذكر أن الاسم الأخير هو أنسب الأسماء له، إلا أن تفسيره اشتهر بالاسم الأول، وبه طُبِع (نَظم الدّرر في تناسب الآيات والسور).
وقد كنتُ أظنّ أنّ هذا العنوان هو العنوان الصحيح للكتاب إلى أن يَسَّر الله تعالى لي حضور لقاء تحت عنوان: «منهج البقاعي في مختصر نظم الدّرر (دلالة البرهان القويم على تناسب آي القرآن العظيم)»[13]، الذي ألقاه د/ عبد الله بن عمر العمر حفظه الله ووفقه[14]، ومن جملة ما أفاد به في هذا اللقاء أن الاسم الصحيح لتفسير البقاعي هو: «نظم الدرر من تناسب الآيات والسور»، بدليل تسمية البقاعي له في مقدمته - خلافًا للمطبوع. ثم أفادني بارك الله في علمه أن أصل ما ذكره هو من كلام د/ محمد أجمل أيوب الإصلاحي -حفظه الله ووفقه- في كتابه «فهرست مصنفات البقاعي»[15].
فشرعت في بحث المسألة وجمع أقوال أهل العلم فيها، وتحصّل لي من ذلك أنه قد اختُلِف في عنوان الكتاب على أربعة مسميات:
1. نظم الدرر في تناسب الآيات والسور:
وبهذا العنوان ذُكِرَ الكتاب في «تفسير المنار»[16]، و«الأعلام»[17] للزركلي. وهو العنوان المثبت على غلاف الكتاب المطبوع[18]، والوارد في مقدمة الكتاب - وَفق النشرة المطبوعة. بَيْد أن هذا العنوان المثبت يحتاج إلى مزيد توثيق وتحقيق، ولا سيما أن المثبت في مقدمة المطبوع مخالف لنُسَخ الكتاب الخطّية، كما سيأتي.
2. نظم الدرر من تناسب الآيات والسور:
وبهذا العنوان سمَّاه مصنّفه في مقدّمة تفسيره، خلافًا للمطبوع. حيث قال: «وسميته: (نظم الدرر من[19] تناسب الآيات والسور)، ويناسب أن يسمى: (فتح الرحمن في تناسب أجزاء القرآن)، وأنسب الأسماء له: (ترجمان القرآن ومبدي مناسبات الفرقان)»[20].
3. نظم الدرر في تناسب الآي والسور:
وجاءت تسمية تفسيره بذلك في موضع من «مصاعد النظر»[21]، إلا أنه مخالف لما أُثبت في أول الكتاب، ولعلّه من تصرُّف الناسخ. وكذا ورد بهذا العنوان في: «الإتقان في علوم القرآن»[22]، و«كشف الظنون»[23].
4. نظم الدرر من تناسب الآي والسور:
وقد سمَّى البقاعيُّ نفسُه كتابَه بهذا العنوان في آخر تفسيره، فقال: «وهذا تمام ما أردته من (نظم الدرر من تناسب الآي والسور)»[24].
ويظهر أن هذا الاسم الأخير هو الاسم الذي ارتضاه المصنِّف لتفسيره، وذلك لأمور:
1. أنه الاسم الذي سمَّاه به في آخر التفسير.
2. أنه الاسم الذي صرَّح به في كتبه المتأخّرة عن التفسير[25] كـ: «مصاعد النظر»[26]، و«إظهار العصر لأسرار أهل العصر»[27]، و«دلالة البرهان القويم على تناسب آي القرآن العظيم»[28].
3. أنّ (الآي) موافق لما في تسمية كتابه المتأخّر: «دلالة البرهان القويم على تناسب آي القرآن العظيم».
4. أنه الاسم الذي صرَّح به في إجازة له بخطّه لأحد تلامذته سنة 882[29].
- ومما يُناسب ذِكْره في هذا المقام، أنه وقع في بعض الكتب ذكر العنوان على الصحيح، وتصرّف المحقق في العنوان وجعله على المشهور؛ ومن مُثُل ذلك: أن البقاعي في كتابه «النكت الوفية بما في شرح الألفية» ذكَر قولًا في مسألةٍ ما، ثم قال: «كما بيّنته في كتابي (نظم الدرر في تناسبِ الآي والسورِ)»[30]، فأبدل المحقّق لفظة (من) بـ(في) وعلَّق عليها قائلًا: «في (أ) و (ب): (من) والتصويب من كشف الظنون (2/ 1961)»[31]، والصواب هو المثبت في النسختين التي أشار إليهما.
وبعد، فالقصد من هذه الكلمات إثبات العنوان بدقّة. وليس ثَمَّ فرق كبير بين العنوان المشهور، وما تم التوصل إليه. فمن جهة المبنى: (من) بدل (في)، و(الآي) بدل (الآيات). ومن جهة المعنى: (في) تدلّ على مضمون الكتاب، وأمّا (من) فتشير إلى معنى آخر وهو أن هذا الكتاب جاء كالعقد الذي تضمَّن جواهر ودررًا -المتمثلة بالمناسبات بين الآي والسور-، و(الآيات) و(الآي) كلاهما جمع صحيح لـ(الآية) من جهة اللغة[32].
خاتمة:
تم في هذه المقالة معالجة الخلاف الحاصل في تسمية تفسير البقاعي، وعرض هذا الخلاف وبيانه، كما تم تقرير أن العنوان الصحيح لتفسير البقاعي هو: «نظم الدرر من تناسب الآي والسور»، وأمّا العنوان الذي طُبع به الكتاب فإنه ليس من وضع مصنّفه، ولم أجد مَن ذكره مِن المتقدّمين، وهو مخالف لما صرَّح به البقاعي نفسه في مقدّمة كتابه وخاتمته. والكتاب ما زال بحاجة إلى إعادة تحقيق ودراسة، بدءًا من تحرير عنوانه، ثم مقابلته على النُّسَخ الخطّية النفيسة والتي منها ما هو بخطّ البقاعي نفسه رحمه الله تعالى.
والحمد لله ربّ العالمين
[1] تحقيق النصوص ونشرها، ص42.
[2] مقاييس اللغة، (4/ 20).
[3] توثيق النصوص وضبطها عند المحدثين، ص115.
[4] تحقيق النصوص ونشرها، ص43.
[5] ليس المراد هنا بيان العنوان الصحيح من بين هذه الأمثلة وتحرير الخلاف فيها، ولكن مجرّد التمثيل.
[6] كذا ورد اسمه على ورقة عنوان النسختين الخطّيتين، وسمّاه به مؤلِّفه في مقدّمته؛ إلا أن السيوطي ذكره باسْمِ «مواقع العلوم من مواقع النجوم» في كتبه الثلاثة: «التحبير» و«إتمام الدراية» و«الإتقان». انظر: مقدمة تحقيق الباحث نبيل صابري لكتاب «مواقع العلوم في مواقع النجوم» (ص171، وما بعدها).
[7] كذا سمَّاه مصنِّفه في مقدمة «الإتقان» و«فهرست مؤلّفاته» الذي قُرئ عليه. وعلى صفحة عنوان نسخة «التحبير» الخطية المقروءة عليه: «التحبير في علم التفسير» وبهذا الاسم طُبع الكتاب، إلا أنه في مقدّمته للكتاب سمَّاه «التحبير لعلم التفسير».
[8] انظر على سبيل المثال: «علوم القرآن بين البرهان والإتقان»، ص93.
[9] وهو د. علال بن عبد القادر بندويش، وهو مِمَّن ناقش وأشرف على أكثر من رسالة ضمن المشروع الذي حُقِّق فيه الكتاب في قسم الكتاب والسنّة بكلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى.
ذكر ذلك في مناقشته لرسالة الماجستير المعنونة بـ: «علوم القرآن عند الأدفوي وأثرها في تفسيره (الاستغناء في علوم القرآن)»، للباحث: عبد الله بن جمال الفوزان.
[10] انظرها مجموعة في: «فهرس مصنفات البقاعي»، ص173- 174.
[11] وقع تصحيف في المطبوع (1/ 5)، فجاءت (في) بدل (من)، والصواب: (من). انظر: مخطوطة الكتاب بخط مصنفها في مكتبة رئيس الكُتَّاب، رقم: 97، [2/ ب]، ومخطوط رقم 78 ضمن مكتبة حاجي بشير آغا، [2/ أ]، وألحقت صورة كلٍّ منهما.
[12] نظم الدرر، (1/ 5).
[13] وهو ضمن لقاءات الأسبوع العلمي الذي عقدته كليةُ القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية في المدة من التاسع والعشرين من شهر جمادى الآخرة إلى الرابع من شهر رجب سنة ألف وأربعمائة وأربع وأربعين، تحت عنوان: «دراسات في تفسير الإمام البقاعي رحمه الله».
[14] الأستاذ المساعد في قسم التفسير وعلوم القرآن بكلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
[15] فهرست مصنفات البقاعي، ص172- 174.
[16] تفسير المنار، (4/ 355).
[17] الأعلام، (1/ 56).
[18] مِن أشهر الطبعات طبعتان: الأولى: طبعة دار الكتاب الإسلامي، 1404هـ= 1984م. والأخرى: طبعة دار الكتب العلمية: 1415هـ= 1995م.
[19] وقع تصحيف في المطبوع (1/ 5)، فجاءت (في) بدل (من)، والصواب: (من). انظر: مخطوطة الكتاب بخط مصنفها في مكتبة رئيس الكُتَّاب، رقم: 97، [2/ ب]، ومخطوط رقم 78 ضمن مكتبة حاجي بشير آغا، [2/ أ]، وألحقت صورة كلٍّ منهما.
[20] نظم الدرر، (1/ 5).
[21] (1/ 207).
[22] (5/ 1836).
[23] (2/ 1961).
[24] نظم الدرر (22/ 443)، طبعة دار الكتاب الإسلامي. وكذلك هي العبارة في مخطوطة الكتاب بخط مصنفها في مكتبة رئيس الكُتَّاب، رقم: 99، [563/ ب].
[25] أعني بالمتأخرة: التي شرع فيها بعد البدء بكتابه التفسير.
[26] وردت تسميته بـ: «نظم الدرر من تناسب الآي والسور» في كلام مَن قرَّظ له كتابه «مصاعد النظر»، كما في أوّله. انظر: «مصاعد النظر» (1/ 114، 116، 118).
[27] (1/ 64) و(2/ 204). وقد وقع تصحيف في المطبوع في الموضع الأول (1/ 64)، فوقعَت (في) بدل (من)، والصواب هو (من) كما في مصورة المخطوط في (1/ 51) المطبوع.
[28] (1/ 68).
[29] انظر: مخطوط رقم 77، [254/ أ]، المحفوظ في المكتبة السليمانية، قسم قليج علي باشا. وألحقت صورة الإجازة.
[30] النكت الوفية (1/ 448).
[31] النكت الوفية (1/ 448)، الحاشية: 1.
[32] انظر: «العين» (8/ 441)، و«الصحاح» (6/ 2275)، و«القاموس المحيط» ص1261.