ما أحوجنا في هذا الزمان إلى هداية القرآن

حاجةُ الناس إلى الاهتداء بشريعة الله وكتابهِ المجيد حاجةٌ فطرية ضرورية، وهذه المقالة تُسَلِّط الضوء على هذا الجانب، وتكشف عن أبعاد حاجة الإنسان إلى القرآن والاهتداء بهديه، مع بيان أثر ذلك على حال المسلمين في الماضي والحاضر.

ما أحوجنا في هذا الزمان إلى هداية القرآن[1]

  قد وَضَحَ للمنصفين من العلماء والباحثين أنّ الله -سبحانه وتعالى- لم يخلق هذا الخلقَ عبثًا، ولم يتخذه لهوًا ولعبًا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ}[الأنبياء: 16]، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}[الحجر: 85]، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون: 115]، {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}[القيامة: 36]، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: 56]. وسواء أُريد بالعبادة ظاهرها، أم معرفة الله -كما ذهب ابن عباس رضي الله عنهما- فالمعرفة لا تكون بدون عبادة، والعبادة لا تكون بدون معرفة.

لذلك كانت حاجةُ الناس إلى الاهتداء بشريعة الذي فطرهم ضروريةً وفوق حاجتهم إلى كلّ شيء. ألَا ترى أن أكثر العالَم يعيشون بغير طبيب مثلًا؟! فأهل البدو كلّهم، وأهل الكُفُور جميعهم، وعامّة بني آدم لا يحتاجون إلى طبيب، وهم أصَحُّ أبدانًا وأقوى طباعًا ممن هو متقيّد بالطبيب من أهل المدن الجامعة.

ولقد فطر اللهُ بني آدم على تناول ما ينفعهم واجتناب ما يضرّهم، وجعل لكلّ قوم عادةً وعُرْفًا في معالجة ما يهجم عليهم من الأدواء، حتى إنّ كثيرًا من أصول الطب إنما أُخذت من عادات الناس وعُرفهم وتجاربهم.

أمّا الشريعة فقائمة على معرفة الإنسان مواقع رضا الله وسخطه في أعماله الاختيارية، ولا طريق لهذه المعرفة إلّا الوحي المحض، بخلاف الطب فمبناه على تعرُّف المنافع والمضار التي للبدن وعليه، وأساسها التجارب والاختبار، وغاية ما يُقَدَّر في جهل تلك المنافع والمضار موت البدن وتعطيل الروح عنه، وأمّا ما يُقَدَّر عند فقدان الشريعة ففساد النَّفْس، وتنكُّبها الصراط السويّ، وانغماسها في حمأة الرذائل؛ مما يُودِي بها وبالمجتمع الذي تعيش فيه، وشتان بين هذا وهلاك البدن بالموت.

فالناس أحوج ما يكونون إلى معرفة ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والقيام به، والدعوة إليه، والصبر عليه، وجهاد من خرج عنه حتى يرجع إليه، وليس للعالَم صلاح بدون ذلك ألبتة، ولا سبيل إلى الوصول إلى السعادة والفوز الأكبر إلا بالعبور على هذا الجسر[2]، وتاريخ الأمم الإسلامية أيام اعتصامها بحبل الدين وتهاونها به، وما نراه في الأمم الغربية من الأمراض الاجتماعية والخُلُقية المستعصية -مع سبقها وعلوّ كعبها في شؤون المادة- شاهدٌ على ذلك.

وما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الكتاب الكريم والسُّنة الصحيحة، وذلك هو الإسلام وهو دين الله وشريعته في جميع الأمم منذ بدء الخلق حتى تقوم الساعة، وقد أخبر الله بذلك في غير موضع من القرآن: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}[آل عمران: 19]، فدِينُ الإسلام هو دين الأوّلين والآخِرين من النبيين والرسل، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[آل عمران: 85]، عامّ في كلّ زمان ومكان؛ فنوحٌ وإبراهيم ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى والحواريون كلهم دينهم الإسلام، وهو عبادة الله وحده لا شريك له والاستسلام له ظاهرًا وباطنًا، وعدم الاستسلام لغيره، كما قد بيَّن ذلك القرآنُ. فدِينُهم كلّهم واحد وإنْ تنوَّعت شرائعهم، قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}[المائدة: 48]، وقال تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[الجاثية: 18، 19].

ولقد جاء القرآن الكريم والسُّنة الصحيحة بشرائع الإسلام الظاهرة وحقائق الإيمان الباطنة؛ ففي مسلمٍ عن عمر -رضي الله عنه- أن جبريل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، فقال: «الإسلام أنْ تشهدَ أن لا إله إلا الله وأنّ محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت؛ والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدَر خيره وشرّه؛ والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»[3].

فمَن لم يقم بشرائع الإسلام الظاهرة امتنع أن يحصل له حقائق الإيمان الباطنة، ومَن حصلت له حقائق الإيمان الباطنة فلا بد أن يحصل له حقائق شرائع الإسلام الظاهرة، فإنّ القلبَ مَلِكٌ والأعضاء جنوده؛ ومتى استقام المَلِك وصَلح استقامَت جنوده وصَلحت، في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ألَا إنّ في الجسد مضغةً، إذا صَلحَت صَلح لها سائر الجسد، وإذا فَسدَت فَسد لها سائر الجسد، ألَا وهي القلب»[4].

وإنّ أصلَ الإيمان والتقوى الإيمانُ برسل الله أجمعين، ومِلاكُ ذلك الإيمانُ بخاتم الرسل -صلى الله عليه وسلم-؛ فالإيمان به يتضمن الإيمان بجميع كتب الله ورسله.

وأصل الكفر والنفاق هو الكفر بالرسل وبما جاؤوا به، وذلك يستوجب العذاب الأكبر، وقد أخبر الله تعالى في كتابه أنه لا يعذِّب أحدًا إلا بعد بلوغ الرسالة، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}[الإسراء: 15]، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}[القصص: 59].

فالقانون السماوي سبب السعادة، ومن الخطأ الاعتياض عنه بالقانون الأرضي الإنساني الذي لا يخلو -وإن توافقت عليه الآراء- من أغلاط وأخطاء، لا سيّما إذا كان ممن لا علم عندهم بمعاني كتاب الله، وسُنَّة نبيِّه الداعي إلى الله على بصيرة.

حقًّا، إنّ الاعتياض عن القانون السماوي بالقانون الأرضي من أعظم أسباب المَقْت والحرمان، وأكبر موجِبات العقوبة والخذلان؛ إذ هو اتخاذٌ لدين الله هزوًا ولهوًا ولعبًا، وتبديلُ النقمةِ بنعمة الله والكُفرانِ بالشُّكْران، وشرعُ دينٍ لم يأذن به الله، واتباعٌ لغيرِ سبيل المؤمنين مُشاقّةً ومحادّةً ومحاربةً وخيانةً لله ورسوله، وعُشُوٌّ عن ذِكر الرحمن، وإعراضٌ عنه، إلى غير ذلك من المفاسد والمحاذير التي لا تدخل تحت الحساب ولا تضبطها أقلام الكُتّاب، قال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}[الأنعام: 70]، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القَرَارُ}[إبراهيم: 28-29]، {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}[الشورى: 21]، {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء: 115]، {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ}[التوبة: 63]، {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[المائدة: 33]، فإذا كان هذا حكم الباغين المحاربين الخارجين عن طاعة الإمام الذين شقُّوا عصا الجماعة؛ فما بالك بمَن دعا الناس كافّة عربًا وعجمًا، مؤمنهم وكافرهم، إلى قانون اخترعه هو أو غيره من جنس الخيالات الباطلة، فخرج هو -وأخرج به- عن طاعة الله وطاعة الرسول، وحاربهما وحادّهما وشاقّهما بمخالفة أمرهما؟! بلى وربك، فإنه رأس الفساد، وأُمّ الشرور والخبائث، وما يعقله إلا العالمون.

وقد وَسَم اللهُ مَن خالف أحكامه واتّبَع غيرها في أحكامه وأعماله بالظلم والكفر والفسق، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}[الطلاق: 1]، {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[البقرة: 229]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ}[المائدة: 47]، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}[النساء: 60، 61]، قال أهل التحقيق من المفسرين: الطاغوت: كلُّ ما تجاوَز به العبدُ حدَّه من معبودٍ أو متبوعٍ أو مُطاعٍ. فطاغوتُ كلّ قوم مَن يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه به فيما لا يعلمون أنه طاعة الله.

فالقرآن يدعو إلى تحكيم ما أنزل الله، وعدم تحكيم ما عَداه؛ إمّا تصريحًا وإمّا تلويحًا، وله جاهَد مَن جاهد، ويجاهد من يجاهد مِن عباد الله المتقين مِن لدن بعث سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى يوم تقوم الساعة، فقد صحّ عنه أنه قال: «لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ، لا يضرهم مَن خذلهم، ولا خلافُ مَن خالفهم، حتى يأتي أمرُ الله»[5]. فبتحكيم ما أنزل الله يقوم العدل، ويؤيَّد المُلْك، ويستقيم أمر المعاش والمعاد، وتكمل لهم الراحة والأمن والحرية التامة.

ومَن شكّ فيما تقدّم فلينظر الفَرق بين حالِ الإسلام في هذه القرون المتأخِّرة التي عُطّلت فيها حدود الشريعة وأحكامها وحالِهِ في القرون المتقدِّمة التي ما كانت على شيء أحفظ منها على أحكام الشريعة وأوعى لها، فإنه واجدٌ الفَرْق كما بين الثَّرَى والثُّريّا، وكما بين الأرض والسماء.

ألَا ترى أن الصحابة -رضي الله عنهم- بعد وفاة نبيّهم -صلى الله عليه وسلم- فتحوا ما فتحوا من الأقاليم، ونشروا الإسلام والإيمان والقرآن في نحو مائة سنة مع قلّة عَدد المسلمين وعُدَدِهم وضيق ذات يدهم، ونحن مع كثرة عَددنا ووفرة عُدَدِنا وهائل ثروتنا لا نزداد إلّا ضعفًا وتقهقرًا وذُلًّا وحقارةً في عيون الأعداء؛ وذلك لأنّ مَن ينصر الله يُمكِّن له في الأرض، ويمدّه بنصرٍ مِن عنده، قال تعالى: {يَاَ أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد: 7]، وقد بيّن الذين ينصرون دينَه بقوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ}[الحج: 41].

وقد وعَد اللهُ رسلَه ومَن آمن بهم بالنصر في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ}[غافر: 51]، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}[الصافات: 171-173]، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}[الحج: 38].

ولا يقدح في ذلك انهزامهم في بعض المشاهد وما جرى عليهم من القتل في بعض المغازي، فإنّ الغَلَبَة كانت لهم ولمَن بَعدهم في العاقبة، ولكنه أراد لهم ذلك ليذكِّرهم به وليزيدهم إيمانًا بأنّ النصر من عنده: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}[التوبة: 25، 26].

فمَنْ نَصَرَ دينَ اللهِ نَصَرَهُ اللهُ، ومَن خذَل دينَه وخالف رسولَه خَذَلَهُ اللهُ في الدنيا والآخرة. ألَا ترى أنّ أهل أُحُد لمّا أمَرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يثبتوا في مكانهم عند الجبل ولا يزايلوه سواء أكانت الدولة للمسلمين أم عليهم، فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون خيلهم، والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا، والمسلمون على آثارهم يقتلونهم قتلًا ذريعًا؛ فلما اختلفوا فقال بعضهم: قد انهزم المشركون فما موقفنا ها هنا؟ وقال بعضهم: لا نخالف أَمْر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فَثبَتَ مكانه عبدُ الله بن جبير أمير الرماة في نفر دون العشرة، وغادر نفرٌ مكانه يجمع الأسلاب، كَـرّ عند ذلك المشركون على الرماة وقتلوا عبدَ الله بن جبير وأقبلوا على المسلمين، وحالت الريح دَبُورًا وكانت صَبَا، حتى هُزموا وقُتل مَن قُتل، وذلك كلّه بِشَرِّ مخالفة بعضهم أمْرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعصيانهم له، وذلك معنى قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ}[آل عمران: 152].

ولقد كان أهلُ المدينة في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ أفضلَ أهل الدنيا والآخرة؛ لتمسُّكهم بطاعة الرسول واعتصامهم بحبل الله، ثم تغيّروا بعض التغيّر فجرى عليهم من المصائب ما لم يجرِ عليهم من قبل: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران: 165].

وكذلك الشام كان أهله أول الإسلام في سعادة الدنيا والدّين، ثم قامت فتنٌ بما كسبت أيديهم وبما اجترحوا من السيئات، وسُلِّط عليهم أعداؤهم فأَذلُّوهم وضاع المُلْك من أيديهم. وهؤلاء الأندلسيون كانوا وقودًا في ظلال الأمن وخفض العيش والدّعة فغَمطوا النعمة وقابلوها بالأَشَر والبَطَر، فاشتغلوا بمعاصي الله تعالى وأكبُّوا على لهوهم، ولم يتقوا مواقع سخط ربهم ومقته، فَفَعَل اللهُ بهم ما لم يُحْصِهِ قلمُ كاتب، فسلّط عليهم عدوَّهم حتى مزّقهم كلّ ممزَّق وفرقّهم أيدي سبأ، ومَن قرأ تاريخهم علم ما كان القوم عليه وما صاروا إليه، وفي التاريخ أكبر عِبرة لمَن اعتبر: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[المائدة: 49، 50].

 

[1] نُشرت هذه المقالة في مجلة (المنار)، مج35، بتاريخ جمادى الآخرة 1358هـ/يوليو 1939م، وقد قمنا بتخريج الأحاديث الواردة في المقالة تخريجًا مختصرًا. (موقع تفسير).

[2] الكلام الذي ذكره الكاتب هنا منقول بعبارة قريبة من كلام ابن القيم -رحمه الله- في كتاب مفتاح دار السعادة (2/ 863-864)، ط. عالم الفوائد.

[3] رواه مسلم (8).

[4] رواه البخاري (52)، ومسلم (1599).

[5] رواه البخاري (7331)، ومسلم (156)، ولفظ: «ولا خلافُ مَن خالفهم» عند أحمد (8274).

الكاتب

محمد أحمد جاد المولى

مفتش اللغة العربية بوزارة المعارف المصرية، وأستاذ مساعد اللغة العربية بجامعة أكسفورد، توفي عام 1363هـ/ 1944م.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))