أولو الألباب في القرآن الكريم
أولو الألباب في القرآن الكريم[1]
وقفت طويلًا عند قوله تعالى في سورة الرعد المكية: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}[الرعد: 19]، ففكرت في أولئكم الأقوام الذين خصهم الله تعالى بالتذكر، وأفردهم بالاعتبار، ثم بعد ذلك شرَّفهم بأن جعلهم أولي الألباب، وهي العقول، فقلبُ كل شيء هو جوهره. ولا شك أن أفضل ما في الإنسان عقله الذي ينسجم مع الوحي الإلهي، ومن ثَم فقد قال -صلى الله عليه وسلم- في الكافر، وقد قيل: ما أعقلَ فلانًا الكافر! فقال: «مَه، إِنَّ الْكَافِر لَا عَقْلَ لَهُ»[2].
فمهمة العقل: التمييز بين النافع والضار في الحال والمآل، وبه فضَّله الله تعالى وكرَّمه عن بقية الحيوانات التي تزيد عنه قوة وضخامة، لكنها محكومة مذلَّلة لهذا الإنسان الذي تَميَّز بهذه القوة المفكرة.
تأمَّلت تلك الآية الكريمة، فرجعت قليلًا وراءها لنتعرف موقعها في النَّظم الكريم، فإذا ما قبلها من آيات كان يتحدث عن استحقاق الله سبحانه وحده بالعبادة وتفردِه بالسجود لله، وذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا}[الرعد:15]، ثم بعد ذلك يسوق الحق -جَلَّ وَعَلَا- الآيات الدالة على وحدانيته وربوبيته للسموات والأرض ومن فيهن، ويبين أن الناس مع هذا البيان الذي لا بيان بعده لم يلتقوا على رأي واحد؛ فمنهم شقي وسعيد، ويمثّل المولى سبحانه أولئك الأقوام، فيجعل العالِمَ المهتديَ إلى الصواب هو المبصر والمتبصر، ومن ضل عن الحق وأعرض عن الهُدَى من بعد ما تبين له فهو الأعمى {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى}[الرعد:19]، لا شك أنه لا يمكن بالتسوية بين الأعمى والبصير كما لا يمكن التسوية بين المهتدي والضال، وعند هذه النقطة من الآيات نكون قد وصلنا إلى أولي الألباب.
فمن هم أولو الألباب؟
إن الإنسان إذا كان يبحث عن الإجابة عن هذا السؤال فأولى به بدلًا من أن يتعب نفسه أن يسترسل في تلاوة الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وحينئذ سيجد الجواب الشافي والقول الفصل.
والقرآن الكريم حينما يشرع في تعريفنا بأولئكم الأقوام الذين شرفهم وأكرمهم ورفع أقدارهم نجده يعدِّد لهم كثيرًا من الصفات التي استحقوا بها ذلك الوصف الكريم.
1- وأولها: {يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ}[الرعد:20]:
فما ذلك العهد الذي وَفَّوْا به، والذي كانت له الصدارة على سائر نعوتهم؟
(1) يرى جماعة من العلماء أن المرادَ بذلك العهد هو ما أخذه الله على بني آدم في عالم الذَّرِّ قبل خلق الأجسام، وذلك حينما أخذ الله عليهم العهد والميثاق أن يؤمنوا بألوهيته ويعترفوا بعبوديته، كما يشير إلى هذا قوله تعالى في سورة الأعراف: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}[الأعراف:172]، فكان ذلك الإقرارُ منهم في الأزل، وهم به مطالَبون بتحقيقه بعد وجودهم، فمن وفَّي منهم فقد ساير مقتضى هذا الميثاق، دون أن ينسى أو يتناسى هذا العهد.
(2) ويرى جماعة آخرون أن المراد بعهد الله هنا كلُّ ما عَهِدَ الله به إليهم من أوامرَ ونواهٍ؛ فوفاؤهم بالعهد هو قيامهم بما شرع الله لهم، فهم لا يتركون مأمورًا به، ولا يتقحَّمون منهيًّا عنه، ولا مانع من إرادة كلا المعنيين.
والوفاء بالعهد مقصود الشرع حيث حثَّ الله على الوفاء به في مواضع عديدة في كتابه:
ففي صدر سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}[المائدة:1].
وفي الإسراء: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}[الإسراء:34].
وفي النحل: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}[النحل:91].
وفي الفتح: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[الفتح:10].
وإذا كان الوفاء بالعهد مطلوبًا بتلك الدرجة من الأهمية؛ فإن الجزاء عليه مضمون كذلك، حسبما يوحي بذلك قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}[البقرة:40]، وقوله: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ}[التوبة:111]، وحينما يستمع المؤمن إلى تلك الآيات فإنه لا بد أن يجتهد في المحافظة على الوفاء بالعهد حتى يحصل عظيم الفضل.
وتُعَقِّب الآية الكريمة بقوله تعالى: {وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ}[الرعد:20]؛ لتنبه المؤمن على خطأ قد يقع فيه؛ فلربما يظن البعض أن الوفاء مطلوبٌ به الإنسانُ مع خالقِه فقط، مع أن المطلوب الوفاء من المؤمن مع خالقه، ومع الخلائق، ومع الخلق بعضهم مع بعض، فكل عقد عَقدتَه، وكل عهد التزمت به لأي إنسان كائنًا من كان فواجبٌ عليك الوفاءُ به، حتى يكون جديرًا أن يكون مع ركب أولي الألباب.
2- الوصف الثاني لأولي الألباب: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}[الرعد:21]:
ونرى أن ذلك أيضًا من جملة العهد الإلهي على عباده الذين تشرفوا بالانتساب إليه.
ويجدر هنا أن نتعرف على المراد وصلُه:
(1) يرى جماعة من المفسرين أن المقصود صلة الأرحام، ولهذا الاتجاه ما يؤيده من القرآن الكريم وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
والقرآن يوصي بصلة الرحم، والسؤال بحق الرحم، ففي صدر سورة النساء يقول سبحانه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ}[النساء:1].
ويقول منبهًا على شناعة قطعها في سورة محمد: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}[محمد:22].
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة مرفوعًا إليه -صلى الله عليه وسلم-: «خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ، فَلَمَّا فَرَغَ منه قامَتِ الرَّحِمُ، فأخَذَتْ بحَقْوِ الرَّحْمَنِ، فقالَ: مَهْ، قالَتْ: هذا مَقامُ العائِذِ بكَ مِنَ القَطِيعَةِ، قالَ: ألا تَرْضَيْنَ أنْ أصِلَ مَن وصَلَكِ، وأَقْطَعَ مَن قَطَعَكِ؟ قالَتْ: بَلَى يا رَبِّ، قالَ: فَذاكِ»، قالَ أبو هُرَيْرَةَ: اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}[محمد:22][3].
وفي الحديث القدسي: «أَنَا الرَّحْمَن، خَلَقتُ الرَّحِم، وَشَقَقْت لَهَا اسْمًا مِنْ اسْمِي، مَنْ وَصَلَهَا وَصَلته وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُه»[4].
(2) ويرى آخرون أن المأمور بوصله في الآية إنما هو الدين والأنبياء وما أَتَوا به، ولهم على ذلك حجج غير خافية من نحو:
قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}[الشورى:13].
ونحو قوله تعالى: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}[البقرة:285].
وقد أوضح الله تعالى مآل كل من الواصلين لدينه والقاطعين له، مع وضوح الأمر واستيقانه فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[النساء:150-152].
والنبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم- يؤكد هذا المعنى أبلغ تأكيد؛ فقد روى البخاري بسنده عن أبي هريرة مرفوعًا: «أَنَا أَوْلَى النَّاس بِعِيسَى بن مَرْيم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَالْأَنْبِيَاء إِخْوَة لِعَلَّات، أُمَّهَاتهم شَتَّي وَدِينهم وَاحِد»[5].
ونحوه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَه إِلَّا اتِّبَاعِي»[6].
وهذا الاتجاه يفرض علينا الإيمانَ بالكتاب كله والاعترافَ بنبوة كل الأنبياء، لا فرق بين نبي ونبي. ولئن كانت الشرائع قد اختلفت في الفروع؛ فجاءت كل شريعة مناسبة لزمانها ومكانها وأقوامها، حتى جاءت الرسالة المحمدية رسالة عامة عالمية على امتدادها زمانًا ومكانًا وعمقًا إلى أن تقوم الساعة، لئن كانت الرسالات قد اختلفت في الفروع كما أسلفنا؛ فإنها قد أنفقت كلها في الأصول والعقائد، وأمهات الفضائل.
وغنيٌّ عن البيان أن النص القرآني يتّسع لما ذكره كلا الفريقين، ولا بأس من إرادته منه، ومن يهد الله فهو المهتدي.
3، 4- الوصف الثالث والرابع لأولي الألباب: {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}[الرعد:21]:
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر:28]، وأهل الخشية من ربهم تقشعر من كتاب ربهم جلودُهم، وتلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله.
وهؤلاء الذين يخشون ربهم لم يغترُّوا بصالح أعمالهم، فهم في مقام الخوف الشديد والمراقبة الدائمة، وهكذا فمن خاف سَلِم؛ حيث إن خوفه يحمله على تنفيذ أوامر الله الذي يخافه، فلا يترك أمرًا دون أمر، ولا يقترب من منكر؛ إنه يخشى سوء العاقبة، ويخاف أن يجيء اليوم الذي يقف فيه بين يدي ربه فيحاسبه حسابًا عسيرًا؛ إذ ربما كانت حسناته لا تفي بشيء من نعم الله تعالى، ولربما كانت سيئاته أكبر من أن تعادلها الحسنات، وحين ترجَح كِفَّة السيئات على الحسنات يكون الويل والثبور.
{فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ}[القارعة:6-11]، أعاذنا الله تعالى من غضبه وعقابه بفضله وكرمه.
ويستوقف المفسرَ للنص الكريم الجمعُ بين فعلي الخشية والخوف مضارعين، وإن كان مدخل الفعلين واحدًا إلا أن الخشية ترتبط بالعلم المحقق لتعظيم الله -جَلَّ شَأْنه-، ولا كذلك الأمر مع سوء الحساب، ولا ريب أن الوصفين بالفعلين المضارعين يفيدان التجدد الاستمراري تعظيم الله تعالى ومراقبته، ثم الخوف من سوء الحساب، ومن خاف سَلِم.
5- الوصف الخامس لأولي الألباب: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ}[الرعد:22]:
إن أولي الألباب يضمون إلى فضائلهم السابقة فضيلة الصبر؛ وهو حبس النفس على ما يقتضيه الشرع والعقل، وما أخال أحدًا تمسك بخلق الصبر إلا وسَعِدَ وساد، وفي الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم-: «الصَّبْرُ ضِيَاء»[7].
فعمَّ كان صبر أولي الألباب؟
لقد صبروا صبرًا عامًّا على ما عليه النظم القرآني الكريم:
(1) صبروا على الطاعات، فقاموا بها في غير تأفف ولا تضجر في السراء والضراء في المنشط والمكره في السفر والحضر، {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الذاريات:17-18].
ألا ما أعظم أخلاقهم! وما أروع معرفتهم بحق سيدهم عليهم! إنهم يشعرون بعظيم حق الله عليهم، ويقرّون في نفس الوقت بضعفهم؛ لذا يبادرون إلى الاستغفار ويسارعون في الخيرات.
(2) وهم كذلك صابرون عن المعاصي، وهي عندهم سموم مهلكة يرونها بريد الكفر، وأولو الألباب يوقنون أن لذةَ المعصية ساعةٌ تُورِثُ حزنًا طويلًا، يستحضرون عقابها الآجل، فيكرهون مخالفة ربهم، وهم في ذلك مأجورون برفع الدرجات أو تكفير الخطايا، والصبر عن الخوض فيما يخوض فيه الجاهلون جهد مشكور. والثواب على قدر المشقة، وهذا هو حكم الله تعالى في الصابرين، {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا}[القصص:54].
وهناك آية أخرى يتجلى فيها العطاء الجزيل بلا حدود في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر:10]، والحق أن للصبر درجات تتفاوت.
ولقد كان الصبر في معيار الشرع إحدى الصفات الجليلة التي تُخرج الإنسان من الخسران والضياع، كما نراه في سورة العصر المكية: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[العصر:1-3].
إن الوصول إلى الحقائق في حاجة إلى خلق الصبر، وأولو الألباب وقد حصلوا فضيلة الصبر لم يحصّلوها باسم العادة أو المران، ولكنهم يصبرون على الطاعات والمعاصي وآلام الحياة ابتغاء وجه ربهم، فلم يكن صبرهم رياء ولا سمعة، ولا لإظهار البأس والشدة، أو لإبعاد المَلامة عنهم، أو للتنافس الدنيوي المجرد، وهكذا فأولو الألباب هم عباد الرحمن لا يرون شيئًا إلا ويرون الله قبله.
6- من صفات أولي الألباب: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ}[الرعد:22]:
والحديث عن إقامة الصلاة ومكانتها في دين الله ما أراه إلا حديثًا مكررًا، فمن يجهل أهمية الصلاة أو لا يقف على عظيم منزلتها؟ ألم يعلم أن الصلاة هي أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة، فإن صلحت صلح سائر عمله؟ وألم يسمع جواب الكافرين حين سُئلوا: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}[المدثر: 42-43]؟ ثم أليست هي بعد ذلك الركن الركين من أركان الإسلام الذي لا يسقط عن المسلم في أي حال، سواء في ذلك المرض والسفر، والأمن والخوف، في السلم والحرب، وبقية الأركان عُرضة للسقوط بأسبابها الشرعية، وأوامر القرآن الكريم والسنة لا تتطلب من المسلم أداء الصلاة ولكنها تتطلب إقامتها: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ}[الأنعام: 72].
فما معنى إقامتها؟
إن معنى ذلك أن تأتي مستكملة لكل أركانها وشرائطها وسننها، مع تمام الخشوع والاستحضار الروحاني؛ لتُحَقِّق لصاحبها كمال الصلة بالله تعالى، والاستعانة به سبحانه على أمور الدين والدنيا.
ومن معاني إقامتها كذلك عدم تضييعها أو الاستهانة بها، ولعل في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}[الماعون:4-5] مصداق ذلك.
والصلاة في المفهوم الإسلامي تتسع لكل أعمال الخير، فقد روى ابن خزيمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا: «عَلَى كُل مِيسم مِنَ الْإِنسَان صَلَاةٌ كُلَّ يَوْم»، فَقَال رَجُل مِنَ الْقَوْم: هَذَا مِنْ أَشَد مَا أُوتِينَا بِهِ، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «أَمْرك بِالْمَعْرُوف، وَنَهْيُكَ عَن الْمُنْكَر صَلَاة، وَحِلْمُكَ عَلَى الضَّعِيف صَلَاة، وَإنْحِاؤُك الْقَذَر عَنْ الطَّرِيق صَلَاة، وَكُل خطْوَة تَخْطُوهَا إِلَى الصَّلَاة صَلَاة»[8].
الصلاة في الإسلام عبادة ذات أخلاق؛ لأن المسلم لا يمكن أن يعيش بغير أخلاق، والصلاة خير ما يحقّق فينا مكارم الأخلاق؛ وكيف لا يكون كذلك والصلاة الميراث الأكبر من عبادته -صلى الله عليه وسلم-؟!
وإذا كان الحديث عن الصلاة وإقامتها من أخلاق أولي الألباب فيثور هنا سؤال: ما شأنهم في الإنفاق الواجب والمندوب؟
7- ولذا جاء قوله تعالى: {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً}[الرعد:22]:
وهكذا نرى في القرآن الكريم اقتران الزكاة بالصلاة حتى في السور المكية، وذلك من تحقيق أخلاقيات الصلاة على نحو ما أشرنا إليه قريبًا، وبذلك يجمع الله تعالى لأولي الألباب بين العبادة البدنية والمالية، ولنتأمل قليلًا لنرى فضل الله عليهم؛ فالله تعالى هو الرزّاق، والمال مال الله، وهم حينما ينفقون فلا يأتون بشيء من عندهم، إذ هم مستخلَفون فيه، ومع ذلك لا ينفقونه كله حتى يكون ذلك شرطًا لثوابهم، بل إنه سبحانه يكتفي منهم ببعض هذا المال الذي يدل عليه النص الكريم {مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ}[الرعد: 22]، ذلك عطاء ربك {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}[الإسراء:20].
وبعد ذلك نجد الآية تنوع أحوال الإنفاق فتجعله سرًّا مرة وعلانية أخرى. كيف يكون ذلك؟ ومتى يكون؟
إن كل شيء يوضَع في مكانه، فمن خشي الرياء والعُجب أو إيذاء من يستحيي من الفقراء كان السر هو الأنسب له، ومن لم يخش شيئًا من ذلك فله الإعلان؛ عسى أن يكون منه قدوة لغيره.
8- وآخر الأوصاف لأولي الألباب بسياق سورة الرعد قوله تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ}[الرعد:22]:
وأولو الألباب يعيشون في المجتمع وقد يخاطبهم الجاهلون، وخاصية عباد الرحمن كما وصفهم ربهم: {قَالُوا سَلَامًا}[الفرقان:63]، لا يجهلون مع الجاهلين، فهم ذوو عقل وحلم لا يطيش، يدعون إلى طريق الله تعالى بحسن أخلاقهم.
هؤلاء لا يقابلون الإساءة بمثلها، بل يقابلونها بالإحسان، فهم يَصِلون من قطعهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويُعطون من حرمهم، يعرفون من كتاب ربهم أنه {لَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ}[فصلت:34]، وينفذون ما أمرهم به ربهم: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصلت:34]، {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف:199].
وقد يكون للآية معنى آخر: هو أنهم يسارعون إلى الحسنة إذا بدرت منهم سيئة لتكون علاجًا لسوء ما وقع، مصداق ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}[هود:114]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «وَأَتْبِعِ السَّيِّئَة الْحَسَنَة تَمْحُهَا»[9].
وبمجموع هذه الأوصاف العليا لأولي الألباب عبادِ الرحمن يُبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان، فيقول في حسن جزائهم: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا}[الرعد: 22-23]، ويُسبغ الله عليهم من واسع فضله، فيُلحق بهم من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، من غير أن يُنقص من أجورهم شيئًا بهذا الإلحاق؛ وبذلك تتم سعادتهم، وتكمل فرحتهم، ويكون من ثوابهم جمعُهم مع أحبابهم من المؤمنين وإن قصّر هؤلاء في بعض الصالحات؛ تكريمًا للمقربين، وذلك مشروط بصلاح التابع وإن كان أقل من المتبوع، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}[الطور:21].
هذا وقد اكتُفيَ في سورة الرعد بذكر فضائل أولي الألباب في ميدان الأعمال الصالحة، ولم تتعرض للمنهيات على نحو ما سلكته سورة الفرقان المكيّة؛ حيث جمعت بين بعض المأمورات وأمهات الرذائل، ليُعلم يقينًا أن أولي الألباب لا يدور بخلدهم شيء مما نُهي عنه، إذ هم يستبقون إلى الخيرات؛ فما شأنهم وعبادةُ غير الله، والقتلُ، والزنا، وشهادةُ الزور؟! هذه أمور لا تَرِد بخاطرهم، وهم تجنّبوها لأنها تتنافى مع منزلتهم الكريمة من ربهم.
اللهم ألحقنا بالصالحين، وأدخلنا برحمتك في عبادك المقربين.
[1] نشرت هذه المقالة في مجلة «كلية أصول الدين والدعوة الإسلامية بالمنوفية» المجلد 1، العدد الأول، عام 1981م، وقد أعدنا نشرها مع تخريج الأحاديث الواردة فيها. (موقع تفسير).
[2] عزاه القرطبي في تفسيره (17/ 73) إلى الحكيم الترمذي أنه أخرجه بإسناده.
[3] رواه البخاري (4830)، ومسلم (2554).
[4] رواه أبو داود (1694)، والترمذي (1907)، وقال: حسن صحيح.
[5] رواه البخاري (3443).
[6] رواه أحمد (3/ 387)، والدارمي (1/ 115).
[7] رواه مسلم (223).
[8] رواه ابن خزيمة في صحيحه (1497).
[9] رواه الترمذي (1987)، وقال: حسن صحيح.