في إمكان توظيف الإبستمولوجيا المعاصرة لفهم القرآن
تطبيقات محمد أبو القاسم حاج حمد أنموذجًا

الكاتب : الحسن حما
انطلق بعض أصحاب القراءات المعاصرة من (النظر الإبستمولوجي) في مقاربة النص القرآني، وهذه المقالة تقدِّم قراءةً في توظيف حاج حمد للإبستمولوجيا في فهم القرآن الكريم، من خلال النظر في خصائص منهجه الفلسفي، ورؤيته للإبستمولوجيا على صعيد القرآن الكريم.

مقدمة:

  تسعى الدراسات القرآنية المعاصرة، مثل: (محمد شحرور، محمد أركون، نصر حامد أبو زيد، حسن حنفي...) إلى تقديم قراءة جديدة للقرآن؛ لهذا يحظى سؤال المنهج في مقاربة النصوص القرآنية بأهمية كبرى، سواء من حيث فهمها أو العلاقة بينها، أو محاولة استنطاق المضمون الدلالي لها، والملاحظة الأساسية التي تجمع بين هذه الدراسات تأسيسُ مشروعها ومجهودها المعرفي على إعادة قراءة القرآن، انطلاقًا من توظيف مناهج جديدة، مثل: (اللسانيات، علم الاجتماع، تاريخ الأديان، الأنثروبولوجيا، علم النفس، والفلسفة، علم الإناسة...) والاستعانة بآلياتها التحليلية التي أنتجها المجال التداولي الغربي، على اعتبار أن التطوّر المنهجي والإصلاح المجتمعي الذي عرفه المجتمع الغربي كان منطلقه إخضاع الكتاب المقدّس للدراسة والنقد بجملة من تلك المناهج، وفتح آفاق التأويل في قراءة النصّ المقدّس، لكن السؤال المركزي إزاء تلك الجهود هو: ما النتائج التي حصَلَت عليها من خلال إعمال تلك المناهج بالشكل الذي بشَّرَت به وطبّقته؟ وإلى أيّ حدّ استطاعت التقدّم بالمبحث القرآني حتى يسهم في التطوّر المنهجي والفكري للأمة؟ وما هو عائدها الحضاري والمعرفي على الأمة؟

إنّ النظر الإبستمولوجي في مباحث الفكر الديني الفلسفي في الوقت المعاصر، يعتبر أحد أهمّ الموضوعات حاجةً إلى مزيدِ بحثٍ وعناية؛ نظرًا لما تحتويه هذه الدراسات من إشكالات ملحَّة ومقلقة من جهة، ومن جهة ثانية تمكننا من مقاربة موضوعات الدين والتفكير الديني عمومًا من زاوية مختلفة عن آليات نقلية أنتجها العقل الإسلامي. لكن تبقى بعض هذه الدراسات في حاجة إلى الدراسة؛ إذ تتميز عن هذه الاتجاهات التي ثم الإشارة إليها -وإن كانت تشاركها في الأخذ ببعضٍ من هذه المناهج- لكن على مستوى التطبيق والتوظيف، نجد فارقًا كبيرًا. تلك هي جهود محمد أبي القاسم حاج حمد -رحمه الله- من خلال موسوعته الموسومة بـ(العالمية الإسلامية الثانية)، وإطارها المنهجي الموسوم بـ(منهجية القرآنية المعرفية)؛ فقد كشفَت كتاباته عن جهد ذاتي ذي أبعاد فلسفية في الطرح، وحضور للسؤال المنهجي بما هو آلية منهجية في فهم القرآن الكريم، مع التفاعل الوجداني والعقلي مع روح النصّ وبنائيته.

كلّ ذلك مكّنه من إبداع وتأسيس مشروع فكري بأبعاد إبستيميّة منهجيّة قلَّ نظيرها وسط الدراسات القرآنية المعاصرة. وتقدِّم المقالة قراءة في توظيف حاج حمد لـ«فلسفة العلوم» أو «الإبستمولوجية» في فهم القرآن الكريم من خلال عنصرين؛ الأول: النظر في مميزات المنهج الفلسفي الذي يستند إليه حاج حمد. والثاني: رؤية حاج حمد للإبستمولوجيا على صعيد القرآن الكريم.

1. مميزات المنهج الفلسفي الذي يستند إليه الحاج حمد في تحليله:

إنّ الدارس للمشروع الفكري للحاج حمد من خلال كتُبه المطبوعة، ومن خلال بعض المقالات والإسهامات التي شارك بها -رحمه الله- في بعض الدوريات، يلاحظ أن له منهجًا خاصًّا في التحليل والتعامل مع القرآن الكريم، وأسلوبه يختلف كثيرًا عن الأسلوب (التفسيري) التقليدي، ولمعرفة هذا؛ فإنّ أبا القاسم ينطلق من منطلق أنّ منهجه يأخذ بالوحدة الناظمة في وقتٍ لجأ فيه قدماء التفسير إلى التعامل مع القرآن بمنطق الكثرة. لهذا فإن أبا القاسم أسّس لمنهجٍ مخالف لما هو عليه التفسير التراثي؛ لذلك يطرح أبو القاسم لماذا لم يتوقف المفسرون التقليديون لدى ما قام به الرسول من إعادة ترتيبٍ لآيات القرآن خلافًا لأشكال التنزيل، يقول في هذا: «لم يستطع أحد أن يبين أن إعادة ترتيب الكتاب -والتي تمَّت بأمر توقيفي من جبريل- كان الغرض الأساسي منها هو تكريس شكل الوحدة المنهجية للكتاب»[1].

كما يضع أبو القاسم فروعًا بين منهجه والمنهج الصوفي، إذ يرى أن طريقة تحليله تختلف عن الطريقة الصوفية باعتبار أن الصوفيين أصابهم ما أصاب المفسرين القدماء في بعض النواحي بحكم المنهاج الفكري العامّ، ولكنهم -خلافًا لغيرهم- قد توخَّوا المنهج وغاصوا في استعصاءٍ بِرُوح تأمُّلية إشرافية، ويجب أن نميّز هنا بين الفلسفة الصوفية وبين أشكال التعبد الصوفي. كما يأخذ منهجه بالتمييز النوعي المقارن بين النصّ المطلق والتدوين البشري، أخذًا بالخصائص المعرفية والمنهجية التي تستوعب منطق الإبستمولوجيا العلمية المفتوحة خلافًا للنسق التدويني التاريخي، «والفارق الجوهري بين منهجه والمنهج الإبستمولوجي التفكيكي أنّ المنطق الإبستمولوجي العلمي المعاصر يُستخدم في حالتين:

الأولى: حالة تفكيك التراث في مرحلته التدوينية وردِّه إلى ناظمه المعرفي التاريخي.

والثانية: إعادة قراءة النصّ القرآني المطلق باكتشاف ناظمه المعرفي ومنهجيته.

ومن خلال ذلك يذهب الحاج إلى تحرير النصّ القرآني -معرفيًّا- من سلطة الأيديولوجيا التاريخية لثقافة التدوين»[2]. بمعنى أدق: إنّ محمدًا أبا القاسم حاج حمد كشف عن وجه جديد من وجوه إعجاز القرآن الكريم غير المكتشفة سابقًا، تمثَّل في قدرة القرآن الكريم على بناء المنهج العلمي الكوني القادر على إعادة بناء الإنسانية من خلال المنهج والمعرفة والثقافة، وإحداث التغيير في العالم كلّه واحتواء سائر تناقضاته، والقضاء على سلبيتها وتحويلها إلى عوامل تفاعُل بنّاء، وتجاوز ثنائيات الصراع والتقابل إلى وحدةٍ في تنوُّع وتعدُّد وتوحُّد. ويتساءل المفكر السوداني الحاج حمد عن أسباب فشل فِكر (المقاربات) الديني في بداية عصر النهضة في أسلمة المعرفة؟ ويرى أن السبب الحقيقي يعود إلى أن فكر المقاربات هذا تمت ممارسته تحت ضغط الحضارة الأوروبية، حيث تمَّت مقاربة الاشتراكية بالعدالة الاجتماعية في الإسلام، ومقاربة الشورى بالدستورية النيابية، ومقاربة مفهوم التقدم بالتمدن. وفشل فكر المقاربات حين عقَد مقارنة بين وَضْع المرأة في الإسلام والمرأة في الغرب، وكان همُّه ردم الهوّة بين المسلمين والحضارة الغربية. ومع تزايد تأثير الغرب في الواقع الإسلامي زادت حالة القلق الفكري لدى بعض القيادات الإسلامية، مما دفعها إلى القفز فوق منطق المقاربات والمقارنات لتبني (أسلمة) الغربي لتحتويه بدلًا من أن يحتويها وقد عجزت أمامه. ولا يكون الاحتواء في هذه الحالة إلا شكليًّا؛ لأنه يتم ضمن حالة دفاعية قائمة على منطق العجز الحضاري من ناحية، وحالة سلبية مصدرها خوف الاحتواء من ناحية ثانية.

بهذا يكون -رحمه الله- أسّس لمنهجه الفريد في التعامل مع النصّ القرآني، مما مكنه من إنضاج تصور تحليلي فلسفي، يعكس عمق التفاعل المعرفي والمنهجي مع جميع المناهج والأبعاد المعرفية التي يمكن أن تخدم قضيته، لكن في الوقت نفسه دون استلابٍ منهجيّ ومعرفيّ.

2. منظور حاج حمد للإبستمولوجيا على صعيد القرآن الكريم:

إنّ البحث في تطبيقات فلسفة العلوم في منهج محمد أبي القاسم حاج حمد يقتضي إعمال النظر في منطلقاته المنهجية، من خلال آلياته التحليلية والنتائج التي توصّل إليها، فالحاج حمد يَعتبر أن عمله يعدُّ «مشروعًا مستقبليًّا للبحث الإبستمولوجي المفتوح، ولا يمكن التعرّف عليه الآن أو استشرافه، إلّا ضمن الشروط الإبستمولوجية نفسها وباستباقٍ لها، وعلى أرضية اتفاق وتواصل معها، فهي لن تلجأ إلى التركيب من بعدِ التفكيك إلا في حالة تماشيها مع المطلق، على أن يكون مطلقًا بشروطها العلمية، أي: ليس مطلقًا لاهوتيًّا أو ميتافيزيقيًّا»[3]. هذه القاعدة يشترك معها حاج حمد ويستخدم وسائلها ذاتها، «عَبْر الاستخدامات المختلفة للمباحث الإبستمولوجية في قراءة التراث الإسلامي البشري، بدايةً من عصر التدوين في القرن الثالث الهجري، وذلك بتوظيف الحفر الأركيولوجي في المعرفة، والأخذ بمفهوم سلطة الواقع على الفكر، وطروحات الأنثروبولوجيا الثقافية وغيرها من المحدّدات العلمية المعاصرة، وبالذات على مستوى فلسفة اللغة ودلالات الألفاظ»[4].

وينطلق حاج حمد -رحمه الله- من شرطٍ تفسيري في تأسيسه للنظر الإبستمولوجي في القرآن الكريم، عَبْر نقدِه للمعرفة الإنسانية كما تشكّلَت في المجال التداولي الغربي الوضعي واللاهوتي، ويمكن اعتبار منهجية (الجمع بين القراءتين) المدخلَ المنهجي والإبستمولوجي عند الأستاذ حاج حمد في دراسته للقرآن الكريم، وقد عبَّر عن هذا في معرض حديثه عن الإنجاز الموسوعي الأكاديمي الذي قدّمه في كتاب: (العالمية الإسلامية الثانية)، الذي يضم ثلاث قضايا كانت تؤرّق حاج حمد -رحمه الله- وهي:

أولًا: الطبيعة بقانونها الجبري الذي لا يحتمل أيّ تأويلات؛ لأن قانون الجاذبية يعني أن كلّ شيء يسقط يقع على الأرض. ومن جبرية القانون الطبيعي استمد الفكر (الوضعي) فلسفته على يد (أوجست كونت 1798-1857)[5] نافيًا الفكر اللاهوتي ومِن بعدِه الفكر الميتافيزيقي، وصولًا إلى (كارل ماركس 1818-1883) وشريكه (فريدريك إنجلز 1820-1895) اللذَين انتهيا إلى صياغة الفكر الوضعي بمنطقٍ مادِّي جدَليّ، ركَّبا على أساسه فلسفة الإنسان والتاريخ والتناقضات الاجتماعية والاقتصادية، وانتهاءً إلى (ماكس فيبر 1864-1920) و(إميل دوركهايم 1858-1917).

ثانيًا: هناك الرؤية الغيبية للكون والإنسان وهي الرؤية الدينية، حيث تتجاوز قدراتُ الخالق -سبحانه- وإرادتُه كلَّ جبريات القوانين الطبيعية وحتمياتها، محدِثة بذلك (قطيعة) مع الرؤية (الوضعية).

ثالثًا: هناك الإنسان بمنطقه (الوجودي) المميّز خارج المنطق الوضعي والمنطق الغيبي بداية من (مارتن هيدجر 1889- وإلى جان بول سارتر 1905).

من خلال هذا الإرث نظر حاج حمد إلى أن الإنسان يعيش منطقة (تجاذب) بين جبريتين: غيبية دينية، ووضعية مادية. والإنسان المسلم يستند إلى النصّ القرآني باعتباره وحيًا مطلقًا يعادل الوجود الكوني وحركته. ثم إنّ رؤية حاج حمد لإشكاليات الفكر تتسم بمنهجية نقديّة وتحليلية لا تمكنه من المقاربات التوفيقية والتلفيقية، فركّز جهده للبحث عن أصل المشكل؟ الأمر الذي أوصله إلى إدراك أنَّ هناك غيبًا إلهيًّا (مطلقًا)، وهناك طبيعةً (مطلقةً) أيضًا بقوانينها في كونٍ لا مُتَناهٍ في الصغر ولا متناهٍ في الكبر، وهناك إنسانًا (مطلقًا) لا متناهيًا في نزوعه وإرادته وتكوينه. ومع ذلك يعيش هذا الإنسان بين توهُّمِ استلابين: (غيبي ووضعي)، مع أنّ الإنسانَ مطلقٌ في حد ذاته، فالإنسان كائن مطلق؛ فكان إيمانُ حاج حمد بقوانين الطبيعة مطلقة وإيمانُه بالغيب المطلق سؤالًا إشكاليًّا: كيف يمكنه الربط بين هذه المطلقات الثلاثة في كلٍّ واحد؟

هذه القضية كانت مثار إشكالية ضخمة جدًّا في تفكيره إلى أن تم اجتياز الاختبار الفلسفي الصعب للربط جدليًّا بين المطلقات الثلاثة: (الغيب والإنسان والطبيعة)، وذلك بموجب (قراءة كونية موحدة) تتجاوز اللاهوت والوضعية معًا، مصدرها سورة (العلق)، وهي (الجمع بين القراءتين). وترتبط هذه القراءة بأدوات منهجية ومعرفية معاصرة (إبستمولوجية) وليست تراثية، حيث تتحول بالنصّ القرآني من (التفسير التاريخاني) إلى (التحليل الإبستمولوجي)، ومن (الألسنية البلاغية) إلى (الألسنية الدلالية المصطلحية).

وبهذه الأدوات مجتمعة -وكلها معاصرة- يرى حاج حمد أنه بواسطتها تم تجريد الدين من النسيج اللاهوتي الذي هيمن عليه فكريًّا وتاريخيًّا وتراثيًّا، وتم تجريد الفهم لقوانين الطبيعة من الجبرية المادية دون استلابها غيبيًّا، وتم تجريد الإنسان من النزعة الوجودية العبثية دون استلابه وضعيًّا أو لاهوتيًّا. وتبلورت هذه الرؤية الكونية الإبستمولوجية التي قدمها في سِفره الضخم الموسوم بـ(العالمية الإسلامية الثانية جدلية الغيب والإنسان والطبيعة)[6].

إنّ وظيفة القرآن بالنسبة للإبستمولوجيا المعاصرة -عند حاج حمد- «أنه يسدّ النقص في المعرفة الكونية بمنطق (الاستيعاب) و(التجاوز) معًا. رجوعًا إلى تركيبة القرآن نفسه بوصفه معادلًا معرفيًّا مطلقًا في حد ذاته لمطلق الإنسان ومطلق الوجود الكوني. فهو كتابٌ (متعالٍ) بمعنًى مطلقٍ، تعطي نصوصُه أو آياتُه الكونية [...] مُتاحات وعيٍ لا مُتَناهٍ في كونٍ متناهٍ، فالخلق في القرآن يتجاوز خصائص المادة وتفاعلاتها المنضبطة إلى تفعيلها عبر كونية لا متناهية»[7]. بهذا تكون الإبستمولوجيا، هي البديل في «مواجهة جذرية تنقل الفكر الإسلامي [المعاصر] إلى عمق المأزق الحضاري العالمي؛ لأنها تعني طرح الوجه الفلسفي المقابل (للناظم المعرفي المنهجي) الذي تستمد منه الحضارة العالمية المعاصرة تركيبتها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية»[8].

بهذا حاول حاج حمد تحرير النصّ القرآني المطلق من ما سمّاه (تاريخانية موروث التدوين) وينطلق في دعواه من منطلق المقارنة النقدية بين النصّ المطلق والتدوين البشري، والخصائص المعرفية والمنهجية القرآنية التي تستوعب منطق الإبستمولوجيا العلمية المفتوحة خلافًا للنسق التدويني التاريخي[9]. وهذا يعني عنده مخالفة توظيف المنطق الإبستمولوجي العلمي المعاصر الذي استخدمه، في حالتين:

الأولى: حالة تفكيك التراث في مرحلته التدوينية وردِّه إلى ناظمه المعرفي التاريخي.

والثانية: إعادة قراءة النصّ القرآني المطلق باكتشاف ناظمه المعرفي ومنهجيته.

ومن خلال هذين المحدّدين تأتي مقارنته بين المطلق القرآني والتراث التدويني، ثم يُصار إلى تحرير النصّ القرآني -معرفيًّا- من سلطة الأيديولوجيا التاريخية لثقافة التدوين. وهذا عنده يعني:

1) اكتشاف الإطار الفلسفي لحركة المنظومة القرآنية، وقد حدّدها (بجدلية الغيب والإنسان والطبيعة)، وهي جدلية تعني الأخذ بـ«التفاعل الكوني» بين هذه الأبعاد الثلاثة من جهة، ودون استلاب لأيّ بُعدٍ فيها من جهة أخرى، فالغيب -بمعزل عن اللاهوتية- يتّصل بجدل الإنسان وجدل الطبيعة.

2) أن التفاعل بين الغيب والإنسان والطبيعة -خارج الاستلابات- يتخذ شكل (التوسطات الجدلية) ما بين المطلق والنسبي والموضوعي، في ما يشير إليه القرآن: بالأمر للمطلق، والإرادة للنسبي، والمشيئة للموضوعي. والمشيئة الموضوعية هذه هي مجال التطبيقات العلمية.

3) إن قراءة هذه التوسطات الجدلية من داخل المنهج المعرفي القرآني تتخذ ثلاثة أشكال من القراءة:
أولها: «التأليف» بين القراءتين موضوعيًّا.
ثانيها: «التوحيد» بين القراءتين نسبيًّا.
ثالثها: «الدمج» بين القراءتين مطلقًا[10].

وبهذه المنهجية يعطي الحاج حمد شكل (الجمع) بين (القراءتين)، ويفتح آفاقًا أخرى للتعامل مع القرآن، بما يتيح أنْ «يهيمن بها القرآن على كلّ مناهج الفكر العالمي الوضعي، ويتجاوز بها كلّ معطيات الوضعية السلفية التقليدية الدينية»[11].

خلاصة:

تقدِّم كتابات محمد أبي القاسم حاج حمد تجربةً مهمّة لإمكانية توظيف أدوات العلوم الإنسانية والاجتماعية -التي أُنتِجَت خارج المجال التداولي الإسلامي- في فهم القرآن، وتمكِّن للباحثين والدارسين المهتمين بالقرآن من استثمار اشتغالها المنهجي، قصد تطويره بما يخدم استئناف جهود التجديد والإبداع الحضاريين، والكشف عن كُنه النصّ القرآني.

ورغم الملاحظات والنقد الذي وُجِّه إلى المشروع الفكري الذي بشَّر به حاج حمد، فإنه ما زال في حاجة إلى البحثِ والعنايةِ من لدن المتخصصين في الدراسات القرآنية، وقراءتهِ في ضوء جهود الأمة في تفسيرِ وفهمِ القرآن.

 

[1] العالمية الإسلامية الثانية، ص656.

[2] محمد أبو القاسم حاج حمد، إبستمولوجية المعرفة الكونية إسلامية المعرفة والمنهج، ص254-255.

[3] حاج حمد، محمد أبو القاسم، (إبستمولوجيا المعرفة الكونية إسلامية المعرفة والمنهج)، مر، س، ص254.

[4] المرجع السابق، ص254.

[5] أوغست كونت، ولد في مونبلييه عام 1798م، ومات في باريس عام 1857م، درس الطب في مونبلييه وعمل في باريس في مهن مختلفة وهناك حرّر أول مؤلفاته (تأملاتي)، وفي عام 1830 نشر المجلد الأول من (دروس في الفلسفة الوضعية) ونشر في عام 1851-1854 (مذهب الفلسفة الوضعية أو مبحث سسيولوجي مؤسس لديانة إنسانية) في أربعة مجلدات مسبوقة بـ(خطاب في مجمل الوضعية) ويعتبر كونت واضع المذهب الوضعي. انظر محمد منصور، (موسوعة أعلام الفلسفة)، دار أسامة، الأردن - عمان، ط1، سنة 2003م، ص265-266.

[6] مقتطف من حوار أجراه عليّ الديري وفاضل عنان مع المفكر السوداني محمد أبي القاسم حاج حمد قبل وفاته. انظر الرابط: sudaress.com/hurriyat/57378 .

[7] حاج حمد، محمد أبو القاسم، (إبستمولوجية المعرفة إسلامية المعرفة والمنهج)، مر، س، ص205.

[8] حاج حمد، محمد أبو القاسم، (منهجية القرآن المعرفية)، م. س، ص33

[9] حاج حمد، محمد أبو القاسم، (إبستمولوجية المعرفة إسلامية المعرفة والمنهج)، مر، س، ص254.

[10] حاج حمد، محمد أبو القاسم، (إبستمولوجيا المعرفة الكونية)، مر، س، ص255.

[11] حاج حمد، محمد أبو القاسم، (العالمية الإسلامية الثانية)، ط. ابن حزم، م، س، م2، ص710.

الكاتب

الدكتور الحسن حما

حاصل على الدكتوراه في الدراسات الإسلامية، وأستاذ مشارك بجامعة محمد الخامس بالرباط - المغرب.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))