تعريف بمخطوط (الوسيط) للإمام الواحدي
المحفوظ بمكتبة الظاهرية بدمشق
كلام الله تعالى هو خير ما قيل، ولذلك آلت أربابُ العلم في الأمّة على نفسها أن تعكف على درسه وشرحه وحفظه وضبطه وتبليغه بعد وَعْيه، فأنتجَت لنا تراثًا عظيمًا يزيد به المتقدمون في القلوب الإيمان، ويُزيل به المتأخّرون شُبَهَ الشيطان، فحلَّ علمُ التفسير من العلوم الرتبة الشريفة والمحلَّة المَنيفة لاتصاله بكلام الله تعالى بلا حدود أو قيود.
مدخل إلى الكتاب:
ولقد تفنَّن المفسّرون حتى اختلفَت درجات تفسيرهم واهتماماتهم، وكان منهم أبو الحسن عليّ بن أحمد بن محمد بن عليّ الواحدي، النيسابوري، الشافعي[1] المتوفى سنة (468هـ)، الذي صنع تفسيرًا كبيرًا سمّاه البسيط ثم اختصره بالوجيز، وجعل بين بسيطه ووجيزه تفسيرًا وسيطًا[2].
وبين أيدينا نسخةٌ نفيسةٌ من تفسيره (الوسيط) سندرسها بشيءٍ من التفصيل في هذه المقالة من خلال الجانبين؛ المادي والعلمي.
أولًا: الجانب المادي:
1- بيانات الحفظ والورق والحجم:
هذه النسخة محفوظة في دار الكتب الظاهرية بدمشق المحروسة برقم حفظ (7818)، متوزعة على ثلاثمائة وستين ورقة متصلة من غير انقطاع بدلالة التعقيبة الموجودة بنهاية الصفحة، كُرِّرَت فيها الورقة (288) ثلاث مراتٍ وَوُضِعَ على المكرَّرِ منها طيَّارات، في ثلاثة وعشرين سطرًا في كلّ صفحة، ومقاسها (26×17مم).
2- بيانات الضبط والخطّ:
كُتبت هذه النسخة بخطّ نسخ معتاد متوسط الحجم واضح منقط غير مضبوط بالشّكل، كُتبت فيها أسماء السور بخطّ أثقل من باقي الأسطر.
ولم يفرق بين القرآن والتفسير بلون أو اختلاف خط، وإنما جَعَل فوق كلِّ آيةٍ خطَّ تنبيهٍ لتمييزها عن التفسير، وكُتِب في أول النسخة فهرسٌ بالسور التي تناولها في تفسيره من سورة مريم إلى آخر الكتاب بنفس الحبر والخط.
3- الناسخ وتاريخ النَّسْخ:
بعد التحقّق ظهر أنَّ النسخة تقسَّمَت بين قلمَين؛ الأول: (محمد بن عبد الله بن أبي بكرٍ بن أبي بكرٍ المقريّ الشافعيّ البلاطني)، من نهار الجمعة خامس شهر جمادى الأولى من شهور سنة ثلاثين وثمانمائة. إلى سورة الزمر.
والقلم الثاني: لـ(عبد الله بن محمد بن عرفة الأنصاري) في يوم الخميس مستهل جمادى الآخرة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. أكمل به النسخة إلى آخرها.
4- حالة النسخة:
أُصيبَت النسخة برطوبةٍ أذهبَت الحبر في بعض مواضعها مثل [254/ ب]، [255/ ب]، وبلَلٍ على جميع أطرافها، أثَّرَت على بعض أوراقها. وفي بعضها تفكُّكٌ بين الورقة [160/ ب]، [161/ أ]، وكذا بأوَّلها ظهر التفكّك جليًّا، وأحيانًا التمزّق، وغطَّى بعضَها الترميمُ من أعلاها وأدناها.
ثانيًا: الجانب العلمي:
1- الفوائد والتصحيحات والتعليقات في النسخة:
كُتبت عدّة فوائد في بدايتها بخطوط مختلفة؛ وكان أوّلها فائدة مختصرة في نصف ورقة عن ترتيب أحداث النبوّة الأولى من الصبر على أذى المشركين في مكة إلى قتالهم من المدينة، ثم فائدة عن أسماءٍ مباركةٍ جليلةٍ -كما وُصِفَت- مكتوبةٍ بشكلِ طلاسم تجعل حامِلَها ممَّن يَشهَد الحروب في أمنٍ من الإصابة، ثم أبيات من الشعر، والفهرسُ الذي ذكرناه آنفًا، ثم فائدةٌ لغويةٌ وفقهيةٌ.
وعلى طُرَرِ النُّسخة وهوامشها بعض المطالب، والتصحيحات، والتعليقات، والنقولات من بعض التفاسير؛ كمعالم التنزيل وغيره، بنفس الخط.
2- قيمة النسخة:
وهذه النسخة تُعَدُّ نسخةً نفيسةً؛ لأنها بنصفها الثاني مِن مكتوبات القرن السادس، وهي منسوخةٌ من نُسْخَةِ الحافِظِ ابن عساكرَ مُحدِّثِ الشام[3]، المَقرُوءَةِ على البيهَقيِّ[4] صاحب السماع على المؤلف. مما أضاف للنسخة نفاسة تعلو في الرتبة على غيرها من النُّسَخ.
3- مشكلات النسخة:
في أوَّل النسخة كُتِبَ «الجزء الثاني»، وكُتب فوق كلمة: «الثاني»، «الثالث»؛ فلم يتضح المراد، ثم في الورقة (160/ب) كتب أنه انتهى في هذا المكان من الجزء الثالث واختَتَمَهُ بذكر اسم الكتاب: «الوسيط من المقبوض والبسيط»، كما سمَّاهُ ناسخُهُ وهو (محمد بن أبي بكرٍ المقريّ) من سنة ثلاثين وثمانمائة. وابتدأ بسورة الزمر بخطٍّ مُغايرٍ تمامًا للمكتوب إلى نهاية الورقة، ثم في الورقة التالية استأنف بخط مختلف إلى نهاية النسخة من غير انقطاع أو بترٍ بين الورقـتَين بدلالة التعقيبة، ثم ختمها في نهاية النسخةِ بقوله: «هذا آخر كتاب الوسيط»، وذكر أنها انتهت من يد (ابن عرفة الأنصاري) سنة إحدى وثمانين وخمسمائة.
4- رحلة المخطوط:
ولقد تَنَقَّلَت هذه النسخةُ بين الأزمِنَة من يدٍ إلى يدٍ بين أهل العلم وأصحاب المكتبات؛ فقد رَفَعَ كاتِبُها ابنُ عرفة الأنصاريّ القلمَ عنها قبل نهاية القرن السادس بتسعة عشر عامًا، وأكمَلَها المقريُّ في أوائل القَرن التاسع.
ثمَّ انتقَلَت تَملُّكًا إلى أبي القاسم عبد المجيد بن أبي العلا صاعد الأنصاري الخزرجي.
ثم انتقَلَت إلى رجلٍ من الأتراك وهو حسين أولدغي أبو بكر في سنة إحدى وأربعين وتسعمائة، وهذا نصّه بالتركية: «دلمندغي حسين أولدغي أوك حروا غنه حرج أولدي اكي بوز سكن أقجه سكن أو ألندي باقي لكن وزا أقجه قلده أبوه أيا أوه أكشرده أدا أولنه من شهر ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وتسعمائة».
وفي أولها تحت العنوان بيانٌ من مشتَرٍ غير معروف يُفيد أنَّ قيمتها (900)، ثم استقرت في النهاية في دار الكتُب الظاهرية الأهلية بدمشق التي ضُمَّت أخيرًا إلى مكتبة الأسد الوطنية بقيدِ رقمِ الحفظِ الذي ذَكرناهُ أوّلًا.
خاتمة:
وإنَّ الناظر المتفحِّص للنسخة لَيرى أنَّها ملفَّقَةٌ بين ناسخَين: الأول إلى الورقة (161/ ب)، والثاني من (162/ أ) إلى آخر النسخة. وقد كُتب القسم الثاني أوّلًا في القرن السادس بيدِ ابنِ عرفة، ثم أُلحِقَ به القسمُ الأوَّلُ بيدِ المقريِّ.
والعلمُ أنَّ هذه النسخة عاليةُ الشأن رفيعةُ الرتبة بَعْدَ النظر، يفيد الصورة المنقولة عن المؤلف كذا الخبر، والحمد لله ربّ العالمين.
[1] هو الإمام المصنِّف المفسِّر النحوي، أستاذ عصره، وواحد دهره، أنفق صِباه وأيام شبابه في التحصيل، فأتقن الأصول على الأئمة، وطاف على أعلام الأمة، فتلْمَذَ لأبي الفضل العَرُوضِيِّ الأديب، وقرأَ النحو على أبي الحسَن الضَّرير، وسافَر في طلب الفوائد، ولازم مجالس الثعالبيّ في تحصيل التفسير، وأخذ في التصنيف فجمَع كتاب (الوجيز)، وكتاب (الوسيط)، وكتاب (البسيط)؛ كلٌّ في تفسير القُرآن المجيد، وأحسنَ كلّ الإحسان في البحث والتنقير، وقعَد للإفادة والتدريس سنين، وتخرَّج به طائفةٌ من الأئمة سمِعوا منه وقرؤوا عليه وبلَغوا محلَّ الإفادة. اهـ. قال الذَّهبيُّ في (سِيَره): «إمامُ أهل التأويل». وقال الداوديُّ في (طبقات المفسّرين): «كان أَوْحد عصره في التَّفسير». مات -رحمه الله- بنيسابور في جمادى الآخرة، سنة ثمان وستين وأربع مائة. انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج18، ص339، معجم الأدباء، ياقوت الحموي، ج4، ص1659، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة: الأولى، 1414هـ-1993م، طبقات الشافعية الكبرى، السبكي، هجر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة: الثانية، 1413هـ، ج5، ص240، طبقات المفسرين، الداودي، دار الكتب العلمية-بيروت، ج1، ص394.
[2] التزم المصنف -رحمه الله- منهجًا أشار إليه في مقدمة كتابه بقوله أنه جمعه وسيطًا بين البسيط والوجيز، ومن هنا نستطيع أن نقول: إن كتابه (الوسيط) كتاب جامع للتفسير بالمأثور عن النبي والصحابة والتابعين -رضي الله عنهم- وأيضًا لا يخلو الكتاب من آراء لأهل الرأي وأصحاب المعاني فيما كان يستأنس به الواحدي من توضيح آيات الذّكر الحكيم، فيمكن أن نقول: إن كتابه كتاب جامع بين التفسير بالمنقول والمعقول، أو بعبارة أخرى بين الرواية والدراية، ولقد فسَّر الواحدي في (الوسيط) آيات كتاب الله بالقرآن ثم بالسُّنة ثم بأقوال الصحابة والتابعين، وتكلم على أسباب النزول وأوضح ألفاظ القرآن بأقوال أهل اللغة والمعاني، وتعرّض لبعض المسائل الفقهية والنحوية. (من مقدمة تحقيق الكتاب بتصرّف)، الوسيط، الواحدي، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ عليّ محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، 1415هـ-1994م، ج1، ص21.
[3] الحافظ أبو القاسم علي بن أبي محمد الحسن بن هبة الله أبي الحسن بن عبد الله بن الحسين المعروف بابن عساكر، الدمشقي الملقَّب (ثقة الدين)، كان محدِّث الشام في وقته، ومن أعيان الفقهاء الشافعية، غلَب عليه الحديث فاشتهر به وبالغ في طلبه إلى أن جمعَ منه ما لم يتفق لغيره، ورحل وطوّف وجاب البلاد ولقي المشايخ، وكان رفيق الحافظ أبي سعد عبد الكريم بن السمعاني في الرحلة، وكان حافظًا ديِّنًا جمَع بين معرفة المتون والأسانيد، وكانت ولادة الحافظ المذكور في أول المحرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة. وتوفي ليلة الاثنين الحادي عشر من رجب سنة إحدى وسبعين وخمسمائة بدمشق، ودفن عند والده وأهله بمقابر باب الصغير، رحمهم الله تعالى. وصلَّى عليه الشيخ قطب الدين النيسابوري، وحضر الصلاة عليه السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى. انظر: وفيات الأعيان، ابن خلكان، دار صادر-بيروت، ج3، ص311.
[4] عبد الجبّار بن محمد بن أحمد، الخُوَاريّ، البَيْهقيّ، أبو محمد، [المتوفى: 536هـ]، وخوار: بُليْدة من أعمال الرّيّ، كان إمام الجامع المَنِيعيّ بنَيْسابور، وكان مُفْتيًا، عالمًا، يعرف مذهب الشافعيّ، وفيه تَواضُعٌ وخيرٌ. وُلد سنة خمسٍ وأربعين وأربعمائة، وتفقه عند إمام الحَرَمين أبي المعالي، وسمع: أبا بكر البيهقي، وأبا الحسن عليّ بن أحمد الواحديّ، وأخاه أبا القاسم عبد الرحمن بن أحمد، وأبا القاسم القُشيريّ، وغيرهم، روى عَنْهُ: ابن عساكر، وابن السمعانيّ، وآخرون. تُوُفّي في تاسع عشر شعبان. انظر: تاريخ الإسلام، الذهبي، ج11، ص654.