الهجرة في لغة القرآن الكريم
الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة من أعظم الأحداث في تاريخ الإسلام، انتقل بها هذا الدين العظيم إلى العالمية، بعد أن كان محصورًا ومحاصَرًا في منطقة محدودة، هي مكة المكرمة؛ فقد كان انتقال الإسلام من مكة المكرمة إلى يثرب -المدينة المنورة فيما بعد- انطلاقةً لهذا الدين إلى العالم، ليصبح خلال سنوات معدودة معروفًا لدى أقوى إمبراطوريتَين في ذلك الوقت؛ الروم والفرس. ولو كانت مكة المكرمة نقطة انتشار الإسلام إلى العالم لقال المفترون إنه انتشر لأن قريشًا ناصرَت واحدًا من أبنائها، ولكنَّ اللهَ أراد ألّا يدَعَ لألسنة المبطلين حجةً في هذا الأمر.
وقد تناول القرآن الكريم قضية الهجرة في العديد من المواضع، ولم يقتصر على الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة، وإنما تعرض لـ(الهجرة) بأنواعها ودلالاتها المختلفة، وتضمَّنت سور الكتاب الكريم موضوع (الهجرة) سواء بذكر الكلمة الدالَّة عليها صراحةً كما في قول الله -سبحانه وتعالى-: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}[النساء: 100]، أو بالحديث عنها دون إيراد الكلمة، كما في حديث القرآن الكريم عن أحد المواقف بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أثناء الهجرة النبوية، وذلك في قوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة: 40].
وتتعرض هذه المقالة بالتحليل لمادة: (هـ ج ر) في القرآن الكريم، ولا تخرج عن الألفاظ المشتقَّة من هذه المادة اللغوية؛ فحدودُها الألفاظ الواردة صراحة فيما يتعلق بالهجرة، سواء أكانت مختصةً بالهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، أم عامة تشمل جميع أنواع الهجرة، بما يكشف عن الدلالة والاستعمال القرآني للكلمة حسب الصيغة الصرفية من خلال سياق الآيات الواردة فيها.
كلمة (الهجرة) في اللغة:
(الهجرة) في اللغة من مادة: (هـ ج ر) التي تدل على التَّرْك والإعراض، يقال: «هَجَرَه يَهْجُرُه هَجْرًا، بالفتح، وهِجْرانًا، بالكسر: صَرَمه وقطعه. والهَجْر: ضد الوصل. وهَجَر الشيء يهجره هجرًا: تركه وأغفله وأعرض عنه»[1]. فالمعنى العامّ للكلمة هو (التَّرْك)، والمعنى الخاص للكلمة هو (الانتقال من بلد إلى بلد). وفي معجم لسان العرب: «الهِجْرَة والهُجْرَة: الخروج من أرض إلى أرض»[2]. وتعرّضَت الكلمة للتخصيص بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من مكة إلى المدينة، فانتقل معنى الكلمة من المعنى العامّ إلى الخاص، ليصبح المعنى الاصطلاحي للكلمة في الإسلام هو: «الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام»[3].
(الهجرة) في الإسلام:
تنقسم الهجرة في الإسلام إلى خمسة أنواع، هي[4]:
1. الهجرة الأولى: إلى الحبشة، عندما آذَى الكفارُ الصحابة -رضوان الله عليهم-.
2. الهجرة الثانية: من مكة إلى المدينة.
3. الهجرة الثالثة: هجرة القبائل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لتعلُّم الشرائع، ثم العودة إلى أوطانهم لتعليم أقوامهم.
4. الهجرة الرابعة: هجرة مَن أسلم من أهل مكة للقاء النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم العودة إلى مكة.
5. الهجرة الخامسة: هجرة ما نهى الله عنه.
والهجرة النبوية ترَكَ خلالها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون به وبرسالته مكةَ المكرمة وغادروها إلى يثرب؛ فرارًا بدينهم وليعزّ الإسلام بأهل هذه الأرض التي رحَّبَت بالدين الجديد وناصرته، فاستحقت أن يُطلِق النبي -صلى الله عليه وسلم- عليها (المدينة) و(طيبة)، وأن يحصل أهلها على لقب (الأنصار)؛ فقد ناصروا هذا الدين وآمنوا به إيمانًا صادقًا مسَّ شغاف قلوبهم، وبذلوا من أجله أنفسَهم ودماءهم وأموالهم رغبةً في رضا الله ورسوله، وإيثارًا للدار الآخرة على الدنيا. وحمَل المسلمون الآتون من مكة المكرمة لقب (المهاجرين)، وهم الفئة الأولى التي حملَت هذا الدين في قلوبها، وتحمَّلت العذاب خلال ثلاث عشرة سنة، ناصَب فيها صناديدُ قريش الإسلامَ العداء؛ سعيًا إلى القضاء عليه في مهده، ولكنَّ الله -عز وجل- أبَى إلّا أن يُتِمَّ نورَه، وأن يكتب لهذا الدين الانتشار خلال عشرة أعوام قضاها النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة المنورة، وانتهت بفتح مكة فتحًا سلميًّا لم تُرَق فيه قطرة دمٍ، وتخلَّى أهلها عن استكبارهم، وأعلنوا أن هذا هو الدين الحق.
الفعل (هاجَر) ومشتقاته:
يدل الفعل (هاجر) ومشتقاته في القرآن الكريم على الانتقال من أرض إلى أرض أخرى، خاصة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وهذا الفعل ثلاثي مزيد بالألف بعد الهاء، وهو على وزن (فاعَل) الذي يدل على المشاركة. وقد جاء القرآن الكريم بهذه الصيغة، لتدل على المفاعلة والمشاركة بين طرفين؛ فمِن ناحيةٍ كان المسلمون قد ضاقوا ذرعًا بالتضييق الذي يمارسه عليهم المشركون، وفي الجهة الأخرى كان كفار مكة يتمنون القضاء على المسلمين، أو التخلي عن دينهم، أو على الأقل الرحيل عن مكة ليتخلصوا من هؤلاء الأشخاص الذين يسببون لهم إزعاجًا؛ ولذلك كان كل طرف قد ابتعد عن الآخر، فالمسلمون لقوا العنَت والمشقة والعذاب في التعامل مع مشركي قريش ووجدوا صعوبة كبيرة في محاولة إقناعهم باعتناق الإسلام، وفي المقابل أغلق الكفار آذانهم عن الاستماع إلى ما دعاهم إليه الإسلام، بل إنهم لم يطيقوا وجود المسلمين بينهم، ومن هنا فإن كل فريق كان قد هجَر الآخر، ولم يكن أمام المسلمين إلّا انتظار الفرج من الله، وجاء الإذن منه -سبحانه وتعالى- لنبيِّه بالهجرة من مكة إلى يثرب، ليحدث فعل (المهاجرة) من المسلمين للمشركين.
وقد أشار الإمام فخر الدين الرازي إلى هذا المعنى بقوله: «هاجروا: أيْ فارقوا أوطانهم وعشائرهم، وأصله من الهَجْر الذي هو ضد الوَصْل، ومنه قيل للكلام القبيح: هُجْرٌ؛ لأنه مما ينبغي أن يُهجَر، والهاجِرة وقتٌ يُهجَر فيه العمل. والمهاجرة: مفاعلة من الهجرة، وجاز أن يكون المراد منه أن الأحباب والأقارب هجَروه بسبب هذا الدين، وهو -أيضًا- هجَرهم بهذا السبب، فكان ذلك مهاجرة»[5]. وما حدث بين المسلمين والكفار هو أن كل طرف تَباعَد عن الآخر، و(التباعُد) من معاني الهجرة: «هَجَرَ يَهْجُرُ هَجْرًا: تَباعَد»[6].
ويدل قول الله -عز وجل-: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي}[آل عمران: 195]، على أن مسألة الهجرة كان فيها تفاعُل وتدافُع بين المسلمين والمشركين؛ فكفار مكة لم يكونوا يطيقون معيشة المسلمين بينهم، والمسلمون كانوا قد لقوا منهم أشد أنواع العذاب والتضييق، وكان المشركون يرغبون في رحيل المسلمين عن مكة، وانتظر المسلمون أمر ربهم بالهجرة ومغادرة البلد الحرام إلى بلد آخر يعبدون الله فيه دون تضييق. وقد أشار الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه عنه عبد الله بن عَدِيّ بن الحمراء الزهريّ إلى أن المسلمين دُفِعوا دفعًا إلى الهجرة، فعندما كان واقفًا بالحزور في سوق مكة قال: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله -عز وجل-، ولولا أني أُخرِجتُ منكِ ما خرَجتُ»[7].
ورَدَ الفعل (هاجَر) ومشتقاته في أربعة وعشرين موضعًا من القرآن الكريم، ويدور معنى هذا الفعل ومشتقاته في الكتاب الكريم حول الهجرة بالبدن التي ينتقل فيها الإنسان من موضع إلى آخر، أو من بلد إلى بلد آخر، خاصة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة.
استخدم القرآن الكريم الفعل الماضي (هاجَر) للدلالة على ثبوت الهجرة، أيْ أنها قد وقعت بالفعل ممن تحدثَت عنهم الآيات. وقد وردَ الفعل (هاجَر) مرة واحدة دون لاحقة صرفية، ليدل على هجرة الرجال والنساء، وذلك في قول الله -عز وجل-: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}[الحشر: 9]. واستخدم القرآن الكريم الفعل (هاجَر) متبوعًا باللاحقة (نون النسوة) مرة واحدة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}[الأحزاب: 50]. وأعلَى القرآنُ الكريم من شأن جماعة المهاجرين، فقد أخبر عنهم بالفعل الماضي المتبوع بواو الجماعة في تسعة مواضع أظهر فيها ما ينتظرهم في الآخرة من أجر عظيم جزاء إيمانهم وصبرهم وتضحيتهم من أجل أن ينتشر هذا الدين بين البشر جميعًا فيُخرجهم من ظلام الجاهلية إلى نور الإيمان. والمواضع التي جاء فيها الفعل (هاجَر) متبوعًا بواو الجماعة، هي: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[البقرة: 218]، و{فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}[آل عمران: 195]، و{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[الأنفال: 72]، و{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[الأنفال: 74]، و{وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الأنفال: 75]، و{الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}[التوبة: 20]، و{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[النحل: 41]، و{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[النحل: 110]، و{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[الحج: 58].
ويتضح من هذه الآيات المكانةُ العظيمة للمهاجرين الأولين لدى ربِّ العالمين، فهم الذين ضحَّوا بأنفسهم وأموالهم وبكل متاع الدنيا ابتغاء مرضاة الله -عز وجل- وفعلوا هذا مخلصين له الدين؛ فقد تركوا أديانهم القديمة، وبالإضافة إلى هذا «فارقوا الأوطان، وتركوا الأقارب والجيران في طلب مرضاة الله، ومعلوم أن هذه الحالة حالة شديدة»[8].
واستخدم القرآن الكريم الفعل المضارع (يُهاجِر) في أسلوب الشرط، متضمنًا أن الهجرة في سبيل الله تحمل الخير الكثير للمؤمن وتنقله من الضيق إلى السعة في العيش والرزق، وذلك في قوله -سبحانه وتعالى-: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}[النساء: 100]. ويوضح الرازي معنى الآية بقوله: «والحاصل كأنه قيل: يا أيها الإنسان إنك إنما تكره الهجرة عن وطنك خوفًا من أن تقع في المشقة والمحنة في السّفَر، فلا تخف فإن الله تعالى يعطيك من النعم الجليلة والمراتب العظيمة في مُهاجَرَتِكَ ما يصير سببًا لِرَغْم أنوف أعدائك، ويكون سببًا لِسَعة عيشك»[9].
ووردَ الفعل (يُهاجِر) متبوعًا بواو الجماعة في القرآن الكريم مُخبِرًا أن مَن أُسنِد إليهم هذا الفعل لم يهاجروا من مكة إلى المدينة بعدُ، وقد جاءت هذه الصيغة في صورة الخطاب للجماعة في آية واحدة هي: {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}[النساء: 97]، وفي آيتين للإخبار عن جماعة الغائبين، حيث وردت مرة واحدة في قوله تعالى: {فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[النساء: 89]، ومرتين في قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}[الأنفال: 72].
واشتُق من الفعل (يُهاجِر) اسم الفاعل (مُهاجِر)، وقد ورد بصيغة جمع المذكر السالم في خمسة مواضع في القرآن الكريم؛ أحدها موقعه الإعرابي النصب، وذلك في قوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[النور: 22]، وفي بقية المواضع بالجر، ومنها قول الله -عز وجل-: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}[التوبة: 100].
الفعل (هَجَر) ومشتقاته:
ورد الفعل (هَجَر) ومشتقاته ثمانِ مرات في القرآن الكريم، ويدور معناها الأساس حول (التَّرْك والإعراض والابتعاد). ويمكن تقسيم المعاني الخاصة لهذا الفعل ومشتقاته إلى معنيين، كما يأتي:
1. يدور معنى الفعل (هَجَر) في بعض الآيات حول (الهَذَيان)، وفي الهذيان ابتعاد عن الصواب. وقد جاء هذا الفعل في صيغة المضارع في موضع واحد، هو قول الله -عز وجل-: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ}[المؤمنون: 67]، ومعنى (هَجَر) في هذا السياق (هَذَى)[10]، أيْ أنهم كانوا يأتون بكلام فيه (هَذَيان)، وعندما يَهذِي الإنسان فإنه يقول كلامًا يبتعد به عن الحق، وهذا هو ما كان يحدث من مشركي مكة، فقد «كانوا يجتمعون حول البيت بالليل يَسمُرون، وكانت عامّةُ سَمَرِهم ذِكرَ القرآن وتسميَتَه سحرًا وشعرًا، وسبَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-»[11].
وجاءت مادة هذا الفعل في صيغة اسم المفعول (مهجور)، وذلك في قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}[الفرقان: 30]. وأشار الرازي إلى أنهم «ذكروا في المهجور قولين؛ الأول: أنه من الهِجران، أي: تركوا الإيمان به ولم يقبلوه وأعرضوا عن استماعه. الثاني: أنه من أهجَر، أي: مهجورًا فيه، ثم حذف الجارّ، ويؤكده قوله تعالى: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ}[المؤمنون: 67]، ثم هَجْرُهم فيه أنهم كانوا يقولون: إنه سحرٌ وشعرٌ وكذبٌ وهَجْرٌ، أي: هذَيان»[12]. وأشار الزبيدي إلى أنه قيل في (مهجورًا) أنهم «قالوا فيه غير الحق. ألم تر إلى المريض إذا هجر قال غير الحق؟»[13].
2. وردَ الفعل (هجَر) ومشتقاته بمعنى (التَّرْك) في بقية المواضع، وقد جاء في صيغة الأمر في أربع آيات؛ هي قوله -سبحانه وتعالى-: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر: 5]، و{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}[مريم: 46]، و{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}[المزمل: 10]، والفعل هنا مؤكَّد بالمفعول المطلق {هَجْرًا}. وجاء هذا الفعل -أيضًا- في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}[النساء: 34].
الخاتمة:
تناولَت هذه المقالة موضوع (الهجرة) في القرآن الكريم، وقد وردَ الحديث عنها صراحة في الكتاب الكريم، كما جاء بصورة ضمنية من خلال الآيات. واقتصرَت هذه المقالة على الألفاظ المشتقة من مادة: (هـ ج ر) الواردة صراحة في آيات القرآن الكريم، ولم تتعرض للآيات التي تتحدث عن هذه المادة بصورة ضمنية. واشتمل البحث في هذه المادة على الهجرة بصفة عامّة، ولم ينحصر في الهجرة النبوية، وذلك للكشف عن دلالات مادة: (هـ ج ر) في السياق القرآني.
ويكشف التناول القرآني للمادة اللغوية: (هـ ج ر) في القرآن الكريم أنها وردت في صورتين:
الصورة الأولى: تتعلق بالفعل المزيد بالألف «(هاجَر) في الماضي، و(يهاجِر) في المضارع»، ويدل معناه من خلال الآيات على الانتقال من مكان إلى مكان آخر. وقد تبيَّن أن استخدام الفعل الماضي ومشتقاته في السياق القرآني يدل على ثبوت حدث (الهجرة) ووقوعه ممن قاموا بهذا الفعل. وأما الفعل المضارع، فيدل على أن (الهجرة) لم تقع ممن يتحدث عنهم القرآن الكريم.
الصورة الثانية: تختص بالفعل المجرد (هجَر) ومشتقاته، ويشير معناه في الآيات إلى (التَّرْك والإعراض والابتعاد عن الصواب). وقد وردت هذه الصورة في ثمان آيات من القرآن الكريم.
[1] تاج العروس من جواهر القاموس، الزبيدي (محمد مرتضى الحسيني)، تحقيق: عبد العليم الطحاوي، مادة (هـ ج ر)، (14/ 396)، وزارة الإعلام، الكويت، 1394هـ-1974م.
[2] لسان العرب، ابن منظور (جمال الدين أبو الفضل محمد بن مكرّم)، تحقيق: عبد الله علي الكبير، ومحمد أحمد حسب الله، وهاشم محمد الشاذلي، مادة (هـ ج ر)، (5/ 4617)، دار المعارف، القاهرة، 1401هـ-1981م.
[3] الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية – الكويت، (42/ 177)، طباعة الوزارة، 1425هـ-2004م.
[4] السابق، (22/ 177).
[5] تفسير الفخر الرازي المشتهر بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب، الرازي (فخر الدين محمد بن عمر)، (6/ 41)، دار الفكر، بيروت، 1401هـ-1981م.
[6] المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية في القاهرة، (ص: 972)، الطبعة الرابعة، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 1425هـ-2004م.
[7] مسند الإمام أحمد بن حنبل، (31/ 10)، حقق هذا الجزء وخرَّج أحاديثه وعلَّق عليه: شعيب الأرنؤوط، وإبراهيم الزيبق، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1420هـ-1999م.
[8] تفسير الفخر الرازي، (15/ 215).
[9] السابق، (11/ 15).
[10] تاج العروس، (14/ 401).
[11] تفسير الفخر الرازي، (23/ 112).
[12] السابق، (24/ 77).
[13] تاج العروس، (14/ 401).