الحج بين شعائر الله وشعائر الجاهلية (2-2)
مما وردَ في تفسير قوله تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}[الأعراف: 16]، أن الصراط المستقيم طريق مكة، يقعد عليها الشيطان ليصدَّ الناس عن الحج والعمرة[1]، ويبدو أنه لمّا يئس الشيطان أن يصد الناس عن البيت الحرام لم يألُ جهدًا في أن يُفسد عليهم مناسكهم، بما أحدث لهم فيها من مُحدَثات ألحقَت بعبادة الله شركًا وفحشًا وعنصرية بغيضة مَنَحَت بعض العرب مزايا وخصائص ليست لسائر الناس.
وها نحن نسعى في مقالنا هذا لنستكمل ما بدأناه في مقال سابق[2] مِن ذِكر غرائب مناسك الجاهلية وعجائبها في الطواف، والسعي، والدعاء، والنَّفْر، وغير ذلك، بما يمنحنا تصورًا متمايزًا للحج بين شعائر الله وشعائر الجاهلية.
طواف الجاهلية:
أمّا طواف الجاهلية فقد كان لهم طواف بالكعبة وطواف بغيرها، أما الكعبة فقد جعلوا الأصنام في جوفها ومِن حولها، مئات الأصنام امتلأ بها البيت الحرام[3]، لكلّ حيٍّ من العرب صنم أو صنمان[4]؛ فمنها (مناف) وبه كانت تسمِّي قريشٌ عبدَ مناف[5]، ومنها (شمس) وبِهِ سُمِّيَ عبد شمس، و(العُزَّى) صنم كان يُطلى بالدم[6]، و(هُبَل) وهو أعظم أصنامهم، وكان على ظَهْر الكعبة، وقيل في جوفها[7]، قال الكلبي: «وكان فيما بلغني من عقيق أحمر على صورة الإنسان مكسور اليد اليمنى أدركته قريش كذلك فجعلوا له يدًا من ذهب»[8].
ومنها (الخَلَصَة) بأسفل مكة، كانوا يُلبسونها القلائد، ويُهدون إليها الشعير والحنطة، ويصبُّون عليها اللبن، ويذبحون لها، ويعلِّقون عليها بيض النعام[9]، وكانت الأنصابُ حول الكعبة يذبحون لها[10].
فيُروَى أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل المسجد يومًا فطاف سبعًا، وقريش جلوس، فأقبل -صلى الله عليه وسلم- عليهم فأشار بيده إليهم وإلى أوثانهم فقال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}[الأنبياء: 98][11].
فلما ظهَر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة دخل المسجد، والأصنام منصوبة حول الكعبة، فجعل يطعن بعودٍ في عيونها ووجوهها، ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[الإسراء: 81]، {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ}[سبأ: 49][12]، ثم أمر بها فكُفِئَت على وجوهها، ثم أُخرِجَت من المسجد فحُرِّقَت، وفي ذلك قال راشد بن عبد الله السلمي:
قالتْ: هلمّ إلى الحديث، فقلت: لا ** يأبى الإله عليك والإسلامُ
أَوَمَا رأيت محمدًا وقبيله ** بالفتح حين تكسر الأصنامُ
لرأيت نور الله أضحى ساطعًا ** والشرك يغشى وجهه الإظلام[13]
وكانوا يفرّقون في طوافهم بين الحُمْس والحِلَّة، أما الحُمْس وهم قريش ومَن ولدت من العرب وحلفاؤها، فكانوا يطوفون بالبيت في أحذيتهم وثيابهم، ولا يمسُّون المسجد بأقدامهم تعظيمًا لبقعته[14].
وأما الحِلَّة وهم مَن دونهم من العرب فكانوا يطوفون بالبيت عراة، يقولون: لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها، وبعضهم يقول: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا، وقيل: يخلعونها تفاؤلًا ليتعروا من الذنوب كما تعروا من الثياب[15]. وربما طاف الرجال بالنهار والنساء بالليل[16]، فتضع المرأة على قُبُلها خرقة أو نِسْعة أو شيئًا، فإن لم تجد شيئًا وضعت كفًّا على فَرْجِها وكفًّا على دُبُرها تتقي به الناس، وتقول:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّه
فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّه
كم من لبيب عقله يُضلُّه
وناظر ينظر ما يملُّه[17].
وفيهم أنزل الله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الأعراف: 28][18]. وأنزل: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}[الأعراف: 31].
قال الضحاك: كان ناسٌ من أهل اليمن والأعراب إذا حجوا البيت يطوفون به عُراة ليلًا فأمرهم الله أن يلبسوا ثيابهم، ولا يتعرّوا في المسجد[19].
وذكروا أنّ من (الحِلَّة) مَن إذا دخلوا مكة تصدّقوا بكلّ حذاء لهم وثوب[20]، وراحوا يلتمسون من ثياب (الحُمْس) إجارة أو إعارة؛ يقف أحدهم بباب المسجد، فيقول: من يُعِير ثوبًا؟ فإنْ أعاره أَحْمَسِيٌّ ثوبًا أو أَكْرَاه طاف به، وإن لم يُعِرْهُ ألقَى ثيابه بباب المسجد من خارج، ثم دخل الطواف وهو عريان، يبدأ بإساف فيستلمه، ثم يستلم الركن الأسود، ثم يأخذ عن يمينه ويطوف ويجعل الكعبة عن يمينه، فإذا ختم طوافه سبعًا استلم الركن، ثم استلم نائلة، فيختم بها طوافه، ثم يخرج فيجد ثيابه كما تركها لم تمسّ، فيأخذها فيلبسها، ولا يعود إلى الطواف بعد ذلك عريانًا[21].
فإنْ تكرَّم مُتكرِّم من رجلٍ أو امرأة من غير الحُمس فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحِلّ، ضُرِب وانتُزِعَت منه، فإنْ تُرِك حتى في الثياب، حرمَت عليه ثيابه تلك، فإذا فرغ من طوافه نزعها، ثم طرحها في المسعى بين إساف ونائلة، فلا يمسّها أحد ولا ينتفع بها، حتى تبلَى مِن وَطْءِ الأقدام، ومن الشمس والرياح والمطر. ويسمون تلك الثياب (اللقى)، قال الشاعر:
كَفَى حَزَنًا مَرِّي عَلَيْهِ كَأَنَّهُ لَقًى بَيْنَ أَيْدِي الطَّائِفِينَ حَرِيمُ
وفي ذلك نزل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}[الأعراف: 32][22].
قال ابن زيد: كانوا إذا جاؤوا البيت فطافوا به، حرمت عليهم ثيابهم التي طافوا فيها، فإن وجدوا مَنْ يُعيرهم ثيابًا، وإلا طافوا بالبيت عراة، فقال: {مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ}، قال: ثياب الله، {الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}، {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} قال: كان قوم يحرِّمون ما يخرج من الشاة، لبنها وسمنها ولحمها، فقال الله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}[الأعراف: 32][23].
قرناء الحجّ:
وربما ربط الرجل يده بيد أخيه في الطواف يتقربان بذلك إلى الله تعالى، فنهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فعن ابن عباس: أنّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرّ وهو يطوف بالكعبة بإنسان ربط يده إلى إنسان بسَيْرٍ -أو بخيطٍ أو بشيء غير ذلك- فقطعه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بيده، ثم قال: «قُدْهُ بيده»[24]. قال العيني: «قيل: إن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أنهم يتقربون بمثله إلى الله تعالى»[25].
وعن خليفة بن بِشر، عن أبيه بشر أنه أسلم، فردَّ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- ماله وولده، ثم لقيه النبي -صلى الله عليه وسلم- فرآه هو وابنه طلقًا مقرونين بالحبل، فقال: «ما هذا يا بشر؟»، قال: حلفت لئن ردَّ الله عليَّ مالي وولدي لأحُجَّنّ بيت الله مقرونًا فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- الحبل فقطعه، وقال لهما: «حُجَّا؛ فإن هذا من الشيطان»[26]، قال القسطلاني: قطعه -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن القوْدَ بالأزِمّة إنما يُفعل بالبهائم[27].
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: «إن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرَّ على رجلين مقترنين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما للأقران؟ فقالا: نذرنا لنقترنَنَّ حتى نأتي الكعبة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: أطلقا أنفسكما، ليس هذا نذرًا؛ إنما النذر ما ابتُغِي به وجه الله عز وجل»[28].
وأما صفتهم في الطواف فقد كانوا يطوفون في صفوف وهم يَعِجّون بالأناشيد ويُصَفِّرون[29].
بيت اللات وحرمه:
ولم يكن طواف العرب شيئًا يختصّ بالبيت الحرام؛ بل كانوا يطوفون بالرُّجُمات، وهي حجارة تجمع فتكون على شبه بيت مرتفع كالمنارة[30]، وبالأصنام، والأنصاب[31].
وكانت لهم بيوت يضاهون بها البيت الحرام، ويحجون إليها، ويطوفون بها، ومن ذلك (اللات) كان بالطائف لثقيف على صخرة، وكانوا يسترون ذلك البيت ويضاهون به الكعبة. وكان له حجبة وكسوة، وكانوا يحرّمون واديه، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فهدماه[32].
وكانوا في أسفارهم يتخيرون الأحجار فيعبدون أحسنها شكلًا ومنظرًا، فإذا وجد الرجل حجرًا خيرًا من حجرِه ألقى الأول وأخذ الآخر، وإذا لم يجدوا حجرًا جمعوا كومة من تراب ثم جاؤوا بشاة فحلبوها عليها ثم طافوا بها، وإذا رحلوا تركوها[33]، وربما طافوا بذبائحهم التي يقربونها لآلهتهم، وبقبور السادات والأشراف منهم[34].
دعاء الجاهلية:
وأما دعاؤهم فكان أكثره بالدنيا وصلاحها، ولا يكادون يذكرون الآخرة؛ عن ابن عباس قال: «كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون: اللهم اجعله عام غيث، وعام خصب، وعام وِلَادٍ حَسَنٍ، ويقول آخرون: اللهم أَكْثِر أموالنا، وأبناءنا، ومواشينا، وأَطِل بقاءنا، وأنزل علينا الغيث، وأنبت لنا المرعى، واصحَبْنا في سفرنا، وأعطنا الظَّـفَر على عدوِّنا. ويأتي الرجل منهم فيقول: اللهم ارزقني إبلًا، اللهم ارزقني غنمًا، ولا يذكرون من أمر الآخرة شيئًا فأنزل الله فيهم: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولِ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}[البقرة: 200][35].
صلاة الجاهلية:
حين رفع إبراهيم قواعد البيت دعا ربه أن يرزقه إقامة الصلاة وقبول الدعاء، ودعا ببعض ذلك لبعض ذريته فقال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}[إبراهيم: 40].
قال الزمخشري: وإنما بَعَّضَ لأنه علم بإعلام الله أنه يكون في ذرّيته كفار، وذلك قوله: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة: 124][36]، وقد كان ما توقعه إبراهيم -عليه السلام- فإذا البيت الذي طهَّره لاستقبال المصلين الراكعين الساجدين، قد أَمَّهُ أناس لا يعرفون من الصلاة إلا التصفيق والصفير، ينفخ الرجل في يديه فيُصَفِّر، ويميل خده ويُصَفِّق، فذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}[الأنفال: 35][37].
السعي بين الصفا والمروة:
وأما الصفا والمروة فقد كان مِن العرب مَن لا يسعى بينهما في حج ولا عمرة، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان مَن أَهَلَّ لمناة...، لا يطوفون بين الصفا والمروة»[38]، وعن قتادة قال: «كان حَيٌّ من تهامة في الجاهلية لا يسعون بينهما، فأخبرهم الله أنّ الصفا والمروة من شعائر الله»[39].
وكان من العرب من يطوف بهما ويسعى بينهما غير أنهم قد جعلوا على الصفا صنمًا يقال له (إساف) وعلى المروة آخر يقال له (نائلة)، وهما صنمان من نحاس يستقبلان القبلة[40]، وبينهما من الأصنام والآلهة ما لا يحصى.
أخرج ابن إسحاق عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها قالت: «ما زلنا نسمع أنَّ إسافًا ونائلةَ رجلٌ وامرأة مِن جُرْهُم فَجَرَا في الكعبة، فمُسِخَا حجرَين»[41]. قيل: «فوُضعا على الصّفا والمروة ليعتبر بهما الناس فلما طالت الـمُدَّة عُبِدَا من دون الله»[42].
ويقال: صنمان وضعهما عمرو بن لُحَيٍّ على الصفا والمروة، وكان يذبح عليهما تجاه الكعبة[43]؛ فكان أهل الجاهلية يطوفون بين الصفا والمروة تعظيمًا للصنمين ويتمسحون بهما[44]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: فلما جاء الإسلام وظَهَر، قال المسلمون: يا رسول الله، لا نطوف بين الصفا والمروة؛ فإنه شركٌ كنا نفعله في الجاهلية[45]، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}[البقرة: 158].
قالت العلماء: نزلت هذه الآية في الفريقين كليهما، فيمن طَافَ وفيمن لم يَطُف: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}[البقرة: 158][46].
فأخبرهم الله أنّ الصفا والمروة من شعائر الله، وأن أهل الشرك كانوا يطوفون بهما كفرًا، وأنتم تَطوفون بهما إيمانًا[47].
الحاجُّ والداجُّ في منى:
وكانت العرب لا ترى للتجار والأُجَراء والحمَّالين حجًّا، ويسمونهم (الدَّاجّ)، فكان هؤلاء الداجُّ ينزلون في الشق الأيسر من منى، وكان الحاجُّ ينزلون عند مسجد منى، لا يَـتَّجِرون[48].
ويبدو أن الاعتقاد بعدم أهليّة هؤلاء للحج قد استمر بالناس إلى ما بعد ظهور الإسلام، فقد جاء رجل إلى عبد الله بن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنَّا قوم نُكْرَى، فيزعمون أنه ليس لنا حَجّ! قال: ألستم تُحرِمون كما يحرمون، وتطوفون كما يطوفون، وترمون كما يرمون؟ قال: بلى! قال: فأنت حاجٌّ! جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فسأله عما سألت عنه، فنزلت هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}[البقرة: 198][49].
أيام الفخر وليالي السِّباب:
وكان أهل الجاهلية إذا قضوا مناسكهم بمنًى قعدوا حِلَقًا فذكروا صنيعَ آبائهم في الجاهلية وفعالَهم، فيخطب خطيبهم ويُحدِّث محدثهم، فلا يزالون يتفاخرون بأنسابهم وأحسابهم، ويذكرون أيامهم في الجاهلية، فيقول أحدهم: كان أبي يطعم الطعام، ويقول الآخر: كان أبي يحمل الحَمَالات والديات، ويقول الآخر: كان أبي يضرب بالسيف، ويقول الآخر: كان أبي يجزُّ النواصي، فيمكثون على ذلك يومهم أجمع، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم[50].
وكان لكلّ قبيلة شعراؤها وخطباؤها فيقوم من كلّ بطن شاعر وخطيب، فيقول: منا فلان، ولنا يوم كذا وكذا، فلا يترك فيه شيئًا من الشرف إلا ذكَره، ثم يقول: مَن كان ينكر ما نقول، أو له يوم كيومنا، أو له فخر مثل فخرنا، فليأتِ به. ثم يقوم الشاعر فينشد ما قيل فيهم من الشعر، فمن كان يفاخر تلك القبيلة، أو كان بينه وبينها منافرة، قام فذكر مثالب تلك القبيلة، وما فيها من المساوئ، وما هُجِيَت به من الشعر، ثم فخر هو بما فيه، فلا يزالون يومهم هذا يتفاخرون ويتهاجون ويتشاتمون، واشتهر ذلك عنهم حتى سُمِّي الشِّعْب الذي ينزلون فيه بشِعب السِّباب أو (صُفَيّ السِّبَاب)، وهو أكمة بحي المعابدة اليوم عند مسجد الإجابة.
فلما جاء الله تعالى بالإسلام أمَرَهم أن يشتغلوا بذكر الله وأن يَدَعُوا ذكر الرجال فقال سبحانه: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}[البقرة: 200][51].
ليلة النَّفْر:
وكانوا يحرِّمون على أنفسهم أشياء ليلة النفر لا يَقرَبونها؛ فعن قتادة -رضي الله عنه- قال: «كان هذا الحي من العرب يسمُّون ليلة النَّفْر ليلة الصَّدَر، وكانوا لا يُعَرِّجون على كسير ولا ضالة، ولا لحاجة، ولا يطلبون فيها تجارة، ولا بيعًا؛ فأحلَّ الله ذلك كله للمؤمنين أن يُعَرِّجوا على حوائجهم، ويبتغوا من فضل الله، فقال جل وعز: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}[البقرة: 198][52]
وبعدُ.. فقد كانت تلك صورًا من تاريخ العرب قبل الإسلام، رجَونَا بعَرْضها أن نُطلِع القارئ الكريم على بعض ما أحدثته الجاهلية الأولى من بدع في مناسك الحج، حتى حالَ بها الإيمان إلى الشرك، واقترنت فيها العبادة بالخرافة، وشاهت مناسك إبراهيم الحنيفية فصارت إلى نحو ما قصصنا عليك وما لم نقصص.
وكان ما كان مما لستُ أذكره فظُنَّ شرًّا ولا تسأل عن الخبر[53]
ولعلّ فيما ظهر لنا من عشرات التخالفات التشريعية بين ما جاء به الإسلام وما كان عند العرب في ركن واحد من أركان الإسلام -ما يصلح دليلًا على أصالة التشريع الإسلامي وتميزه، وهو ما يبين زيف الادّعاء باقتباس التشريع الإسلامي من التقاليد العربية؛ فهذا منسك توارثته العرب من لَدُن إبراهيم -عليه السلام- جاء الإسلام فجعل يُحِلُّ ويُحرِّم، ويوجب ويمنع، ويزيد وينقص، ويقدّم ويؤخّر، والرسول -صلى الله عليه وسلم- قائم بين الناس يقول لهم: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ لَعَلِّي لَا أَرَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا»[54]، حتى ردَّ المناسك -بما علَّمه الله- إلى ملّة إبراهيم الحنيفية، تاركًا وراء ظهره ودَبْرَ أُذنه عادات العرب وتقاليدهم التي أحدثوها في دين الله.
ويبقى بعد ذلك مجال فسيح للنظر في دوافع تلك المحدثات التي ألصقت بشعائر الله، هل كانت كلها دوافع دينية أم كان للرياء الاجتماعي وللمصالح المادية أثر في ذلك؟
[1] جامع البيان (12/ 335)، وابن عطية (2/ 380) عن عون بن عبد الله، والنكت والعيون (2/ 206) عن ابن مسعود. واختار ابن جرير وابن عطية العموم في الآية.
[2] منشور على هذا الرابط: tafsir.net/article/5197
[3] أخرج البخاري عن ابن مسعود (4287)، قال: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة يوم الفتح، وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب.
[4] بحر العلوم (1/ 201).
[5] كتاب الأصنام (ص32).
[6] المخصّص (4/ 68).
[7] المختصر في أخبار البشر (1/ 98)، مختار الصحاح (ص323).
[8] كتاب الأصنام (ص28).
[9] أخبار مكة للأزرقي (1/ 124) عن ابن إسحاق.
[10] تفسير مقاتل بن سليمان (1/ 502).
[11] تفسير مقاتل بن سليمان (3/ 93)، أخبار مكة للفاكهي (2/ 169) عن ابن جريج مرسلًا.
[12] البخاري (4720).
[13] كتاب الأصنام (ص31).
[14] المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (11/ 356).
[15] الكشاف (2/ 100).
[16] جامع البيان (12/ 390) عن ابن عباس.
[17] تفسير مقاتل بن سليمان (3/ 125)، وصحيح مسلم (3028)، وأحكام القرآن لابن العربي (2/ 305).
[18] جامع البيان (12/ 377) عن مجاهد.
[19] جامع البيان (12/ 394).
[20] المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (11/ 356).
[21] أخبار مكة للأزرقي (1/ 177).
[22] أخبار مكة للأزرقي (1/ 176، 178)، وتفسير ابن أبي حاتم (5/ 1467) عن طاوس، ومقاييس اللغة (2/ 46).
[23] جامع البيان (12/ 394، 396).
[24] رواه البخاري (1620).
[25] عمدة القاري (9/ 264).
[26] المعجم الكبير للطبراني (2/ 38).
[27] إرشاد الساري (3/ 174).
[28] أخبار مكة للفاكهي (1/ 238).
[29] دراسات في تاريخ العرب القديم (ص382).
[30] تهذيب اللغة (11/ 50).
[31] المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (11/ 354).
[32] المحبر لمحمد بن حبيب (ص315).
[33] انظر: البخاري (4376) عن أبي رجاء العطاردي.
[34] المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (11/ 354).
[35] تفسير مقاتل بن سليمان (1/ 176)، جامع البيان (4/ 202)، تفسير ابن أبي حاتم (2/ 357)، الدر المنثور (1/ 558).
[36] الكشاف (2/ 561).
[37] جامع البيان (13/ 522، 523، 524) قيل: كانوا يصفرون ويصفقون عبادةً، وقيل: ليخلطوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاته، انظر: معالم التنزيل (2/ 291).
[38] البخاري (4861).
[39] جامع البيان (3/ 236).
[40] الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (1/ 200)، السنن الكبرى للنسائي (7/ 325).
[41] سيرة ابن إسحاق (ص24).
[42] الكشف والبيان (2/ 26).
[43] الكشف والبيان (2/ 26)، وانظر: تعليق الشيخ شاكر على جامع البيان (9/ 208).
[44] تفسير مقاتل بن سليمان (5/ 151)، معالم التنزيل (1/ 191).
[45] جامع البيان (3/ 234).
[46] جامع البيان (3/ 234) عن السدي.
[47] جامع البيان (3/ 231).
[48] جامع البيان (4/ 167).
[49] جامع البيان (4/ 169).
[50] جامع البيان (4/ 196).
[51] أخبار مكة للأزرقي (2/ 273)، أخبار مكة للفاكهي (4/ 119)، الدر المنثور (1/ 557)، معالم مكة التأريخية والأثرية (ص154).
[52] جامع البيان (4/ 166) وانظر: الدر المنثور (1/ 536).
[53] الصناعتين (ص370) غير منسوب.
[54] مسلم (1297)، والبيهقي في الكبرى (9524)، واللفظ له.